في المشهد الليبي تتفاوت الصورة الذهنية لاتفاق وقف إطلاق النار، وإن كانت تختلف من لحظة إلى أخرى، فيما تشكل الدعوة إلى تطبيقه والالتزام به خط التقاطع الوحيد، بين الغموض الحاد في التصورات والنقاشات، رغم الشرح المسهب والمطوّل لكثير من التفاصيل والعناوين، وبين الوضوح الشديد في معايير الاستجابة التي بدت في بعض جزئياتها لافتة، وتحتاج إلى وقفة مطوّلة.‏ ويبدو خرق اتفاق وقف إطلاق النار، من قبل عصابات الإرهاب التابعة لمعسكر التآمر والإرهاب حاجة ملحة من قبل المعسكر الأخواني لتعطيل الحل السياسي وإعادة الأوضاع إلى مربعها الأول، وبدء جولة إرهابية جديدة تستهدف الدولة الليبية، شعبا وجيشا وبنى أساسية ومؤسسات عسكرية وأمنية، وذلك لتحقيق أهدافها المعروفة لدى كل ذي بصر وبصيرة ونفس سوية بتدمير ليبيا وتفتيتها إلى كيانات قبلية متناحرة، وإخراجها من جميع المعادلات العربية والإقليمية. 

يجب أن نعترف، أنّ اتفاق وقف إطلاق النار الهش لا ينتج استقراراً، ولا أمناً، ولا سيما مع وجود أطراف إرهابية مدعومة من رعاة دوليين، تستغل هذه الاتفاق لتعزيز مواقعها... وللأسف فاجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في شمال ليبيا التي يشارك فيها خمسة ضباط من كل جانب، لم تحرز تقدما بعد بشأن مطالب رئيسية لاتفاق توسطت فيه الأمم المتحدة، مما يسلط الضوء على هشاشته، ولم يسحب طرفا الحرب، التي خلفت آلاف القتلى وأشاعت الفوضى، قواتهما بعد من جبهات القتال تحسبا لأي تصعيد عسكري. وتوجد حقائق، تشير إليها وقائع تكررت كثيراً، وهذا مما يؤثر في أية اتفاق لوقف النار، لا سيما عندما يكون هشا كهذا التي نحن بصدده، من جهة، ومزدوجة الشخصية والهوية، الوجه والقناع، من حيث هو "وقف للأعمال العدائية" من جانب، واستمرار لها، في حرب مركزة."، من جانب آخر. 

وأقصد بذلك الأعمال العسكرية، أو شبه العسكرية، التي يمكن أن تحدث في مواقع مشمولة بوقف إطلاق النار، وتقوم بها أطراف إرهابية، أو مختلفة علناً حول تصنيف قوى مسلحة عاملة على الأرض، تراها تهددها، أو جهات معادية لوقف إطلاق النار ذاتها... وتطال مدنيين بالدرجة الأولى؟! وكل هذا وسواه، مما يمكن أن يحدث، ويجد مناخاً ملائماً له، في أوقات الحرب، وفي بيئة سياسية غير نظيفة، وعبر استمرار العداء، الظاهر والباطن، والفتنة المدمرة التي تتدحرج مثل كرة النار... مع غيابٍ، أم ضعفٍ كبير، في القدرة على المراقبة، وعلى الردع، في حال الخروج على الاتفاق، "الهدنة"... لا سيما إذا كان الخارج عليها، بين أطراف من فريق واحد، أو تحالف دولي واحد، بينه وبين فريقه أو تحالفه، خلافات عميقة، حول تصنيفات للإرهابيين، وحول قضايا يراها تهدد وجوده، أو أمنه القومي، ومصالحه الحيوية.؟! كل هذا يشكل خطراً على الاتفاق، وشكوكاً في إمكانية صموده.

وللأسف الشديد، فالنظام التركي لا يزال يمارس سياسة المناورة في الملف الليبي، حيث يدعي سعيه لإحلال السلام ووقف إطلاق النار، في حين يقوم بتحريض حلفائه وميليشيات "الوفاق" على التصعيد، حيث يسعى رئيس هذا النظام لتثبيت موضع قدم استعمارية في ليبيا عبر إرسال مرتزقته الإرهابيين إلى أرض عمر المختار، ليؤججوا مشهد الاقتتال ويعيثوا تخريباً وتدميراُ لكل إمكانيات الحلول، التي طالما هي بعيدة عن التدخل التركي السافر، فإنها تسير بشكل ايجابي وبوتيرة جيدة لإرساء أسس سلام دائم. وفي هذا السياق، فقد أعربت القيادة العامة للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر الاثنين 07/12/2020 عن قلقها من توافد حشود ميليشيات حكومة والوفاق باتجاه خطوط التماس غرب سرت والجفرة ونقلها أسلحة ومعدات عسكرية، في خطوة من شأنها أن تنسف اتفاق وقف النار المعلن بين الطرفين. وأكد الناطق باسم الجيش الوطني الليبي العقيد احمد المسماري، أن "أردوغان مستعد لخرق وقف إطلاق النار والذهاب إلى معارك تحقق مصالح بلاده في ليبيا. و أشار المسماري في ذات السياق، إلى وجود  مجموعات تعمل على خرق وقف إطلاق النار في ليبيا و أن نظام أردوغان يسعى لإقامة قواعد تركية في ليبيا. 

إن هذا الكشف اللافت للناطق باسم الجيش الوطني الليبي العقيد احمد المسماري، يؤكد ما قلناه مرارا وتكرارا ونؤكده مجددا وهو أن اتفاق وقف إطلاق النار (الهدنة) في ليبيا ليس اقتناعا تركيًّا ورغبةً تركيةً للحل السياسي في ليبيا، وإنما هي تدخل في إطار اللعب بالوقت والبحث عن وسائل تمديده إلى أبعد مدى لإطالة أمد المؤامرة واستنزاف الخصوم وإنهاكهم ومن ثم التخلص منهم أو استسلامهم، وذلك بإعطاء العصابات الإرهابية الوقت الكافي لإعادة تجميع صفوفها، بعدما بعثرتها العمليات العسكرية للجيش الليبي، واستغلال وقف العمليات القتالية لإدخال الأسلحة المتطورة لهذه العصابات الإرهابية. ولتأكيد المؤكد، فقد كشف موقع إلكتروني متخصص في رصد تحركات الطائرات في البحر المتوسط، الخميس 26/11/2020 عن تحركات لطيران الشحن العسكري التركي وسط البحر المتوسط وشرقه باتجاه ليبيا. وقال موقع "إيتاميل رادار" الإيطالي، إنه رصد طائرتي شحن عسكريتين توجهتا إلى غرب ليبيا، وعلى الأرجح إلى مصراتة، ما يشير إلى استمرار نقل تركيا للأسلحة والمعدات العسكرية إلى عناصرها المنتشرة في غرب ليبيا، وإلى العناصر التي تقاتل إلى جانب قوات حكومة الوفاق.

إنّ خرق اتفاق وقف إطلاق النار، لا يمكن وضعه إلا في سياق الإصرار على خيار الإرهاب والمراهنة عليه في تدمير الدولة الليبية، ولا نعتقد أن هناك مفاجآت في مواصلة المجموعات الإرهابية لخروقاتها، ولتأكيد ذلك لنعد إلى التحليلات والاستنتاجات الغربية والكثير من الأقلام الموتورة المستأجرة التي سبقت بدء سريان وقف العمليات العسكرية، والتي كانت تقدم مقارباتها على أساس حسابات وأوهام بالغت في تضخيم الحالة، وتجاهلت في الوقت ذاته، وقائع وحقائق لا يمكن تجاهلها.‏ 

فالتركيز كان يقوم على تحليل المنافع السياسية التي ستجنيها المجموعات المسلحة من الاتفاق، وبالتالي البناء عليه سياسياً في مرحلة لاحقة، مع اقترانها بخطاب من التشكيك والاتهام والتحريض السياسي والإعلامي من أعلى دوائر القرار التركي والغربي... لكن كما هي العادة حين لا تتوافق حسابات حقل الإرهابيين مع حصاد بيدر الراعين والداعمين لهم، تعود الاصطفافات السياسية لتطفو على السطح في محاولة يائسة لإعادة رسم مشهد حسم الليبيون اتجاهه منذ وقت طويل، فما عجز عنه الإرهابيون ورعاتهم وممولوهم بكل هذا الطيف اللامتناهي من أنواع الإرهاب لن ينالوه بكل هذا الكم من النفاق السياسي أو الخطط أو الأفكار حتى لو كانت بلبوس مبعوث أو بعباءة مراقب.‏

وحتى لا نكون كالذي يحرث في الماء، فإننا نؤكد أن صمود هذا الاتفاق، يكاد يدخل في باب المستعصيات من الأمور، ولا نقول المستحيلات، ولغة التشكيك والاعتراف بصعوبة ما سيعترضه من عقبات، تشكل قصفاً تمهيدياً يصلُح ليكون المدخل التبريري لاحتمالات التعثّر، التي تلوح في أفق الحديث الدولي عنه، بما في ذلك حديث الأمم المتحدة، وهي تنقل المشهد من ضفة إلى أخرى ومن دون فواصل دالة عليه.‏ وقد يكون من المبكر الغوص في التفاصيل الناتجة أو المؤشرات اللحظية القائمة، بحكم أن هناك العديد من المنعطفات التي تنتظرها محطات صعبة وخطرة، أغلبها حاصل نيّات مسبقة، تم تصنيعها لتكون نسخة من سابقاتها، في تجارب لا تزال ماثلة، رغم الفارق والاختلاف الذي تعبّر عنه حالة الإعلان، سواء كان لدى الحضن الأميركي أم اتجه نحو التركي...، في خريطة نيّات، وإحداثيات هروبٍ من توصيف بالانتظار، حيث تحاول ـ عبثاً ـ أن تجد أوجه التقاطع بين صيف المصالحة وشتاء المواجهة، أو نقاط التشابه بين "ربيع" الهجرة من ربقة الإرهاب وخريف رعاته وداعميه.‏

خلاصة الكلام: إن المرحلة الجديدة على أهميتها تبقى بحاجة إلى الحذر، ومواكبة تفصيلية لكل شأن يتصل بالميدان لأن من الخطر بمكان أن نثق بمن ليس أهلا للثقة… ما يعني أن ليبيا المعنية جداً بحقن الدماء ووقف القتال مع من يؤمن بالعمل السياسي للبحث عن مصلحة ليبيا، فإنها معنية أيضاً بمتابعة المواجهة مع الإرهاب مهما كانت تسميات تنظيماته، فعلت ذلك سابقا وستتابعه مستقبلا... وعلى كل الليبيين، من دون استثناء، أن يتمسكوا بليبيا الموحّدة، بوصفها جزءاً من أمتها العربية، ولا يجوز أن تكون ليبيا لعبة بيد المشروع التركي وأنصاره، ولا بيد أية دولة من دول العالم، أو أية قوة فيه، أو أية قبيلة فيها... أو... أو...، فليبيا لشعبها، ولأمتها، ولتاريخها العريق.


كاتب صحفي من المغرب