مصطفى حفيظ

عادت موجة الغضب الشعبي في الجنوب الجزائري لتطفو على السطح مجددا، حيث تشهد عدّة محافظات (ولايات) جنوبية منذ أسبوع مسيرات احتجاجية تطالب بالعدالة الاجتماعية والتنمية، لكن، ما الذي دفع بهذه الاحتجاجات لتخرج إلى السطح من جديد؟ هل هي نفس الأسباب التي كانت في السابق والتي كثيرا ما أخرجت شباب الجنوب للاحتجاج على أوضاعهم المعيشية "المزرية" على حدّ وصفهم؟ وإن كانت كذلك، فهل هي نفس السياسات اتجاه المنطقة؟ هل نحن أمام حراك جديد ينطلق هذه المرّة من الجنوب؟ هل ستنجح الحكومة الجديدة في حلحلة الأزمة؟ لأنّ في حال فشلها معروف أنّ هناك أطراف تبحث عن التغلغل وسط الاحتجاجات الشعبية خدمة لأجندات تحاربها السلطة في الجزائر.

منذ أسبوع أو أكثر، يعيش الجنوب الجزائري على وقع المسيرات الاحتجاجية المطالبة بالعدالة الاجتماعية والتنمية، وفي مجال التوظيف بالأخص، ويشعر سكان الجنوب في كل مرّة بالظلم والتهميش خاصة وأنّهم يعيشون في الجزء الغني من البلاد بسبب الثورة النفطية التي تزخر بها الصحراء الجزائرية، وكثيرا ما اندلعت الاحتجاجات بالمنطقة بسبب استمرار نفس السياسات التي انتهجتها الحكومات السابقة خاصة في عهدة الرئيس الأسبق بوتفليقة، فلو كانت سياسات الرئيس الأسبق بوتفليقة اتجّاه الجنوب ناجحة لما خرج سكان الولايات الجنوبية إلى الشارع، فمسألة تنمية الجنوب كانت تطرح في كلّ مرّة تندلع فيها موجة احتجاجات وسط سكان المنطقة، وطبعا كانت تنجح حكومات بوتفليقة المتوالية في اخماد نار الغضب الشعبي هناك بإطلاق وعود لم يتحقق منها شيء، بدليل تجدد الاحتجاجات بسبب الاقصاء الذي كان يتعرض له شباب الصحراء خاصة في مسألة التوظيف في شركات النفط، ففي سنة 2018 مثلا، وهي السنة التي سبقت سنة الحراك الشعبي (22 فبراير/شباط 2019)، خرج شباب محافظة (ولاية) ورقلة (منطقة نفطية) بسبب البطالة وغياب التنمية، لكن ماذا كان ردّ الوزير الأول وقتها، وطبعا كان أحمد أويحي على رأس الحكومة؟ كان استفزازيا، حيث وصف المسيرات بأعمال الشغب، وقال إنّ الاحتجاجات لن تحل المشاكل، لكن تصريحه كان بمثابة صبّ الزيت على النار، فقد اندلعت موجة احتجاجات متضامنة مع سكان الجنوب في عدة محافظات منها محافظات منطقة القبائل، واعتبرت المنظمات الحقوقية آنذاك أنّ منطقة الجنوب "قنبلة موقوتة قد تنفجر في أيّ لحظة"، واستمرت الحكومة في سياسات الترقيع، مما زاد من حجم معاناة سكان الجنوب الذين يشعرون بأنّهم منبوذين ومهمّشين من طرف السلطة، مع أنّ المنطقة تزخر بثروات باطنية أبرزها النفط والغاز، وهما رئة الاقتصاد الجزائري المعتمد أساسا على مداخيل هاتين الثروتين، لكن السؤال المحيّر الذي دائما ما يطرح هو: لماذا تصرّ السلطة على التعامل مع الجنوب بهذه الطريقة؟ أم أنّ المشكلة كان سببها النظام السابق؟ 

هل تعاملت السلطة مع سكان الجنوب دوما كورقة انتخابية؟ ثم في المقابل لم تنل حظّها من التنمية كما يجب، لأن القول بعكس ذلك غير صحيح بدليل موجات الاحتجاج التي كانت تندلع بين الفينة والأخرى بسبب ما يسمّيه سكان الجنوب "التهميش والاقصاء"، ثمّ ما الذي يفسّر نسب المشاركة المرتفعة في الانتخابات بولايات الجنوب مقارنة بولايات الشمال مع أنّ الجزء الشمالي من البلاد كان الأوفر حظّا من حيث المشاريع التنموية مقارنة بالجنوب؟ ليس هناك تفسير آخر للظاهرة سوى أنّ المنطقة الجنوبية من البلاد كانت دوما مجرّد ورقة انتخابية فقط، واليوم، مع اندلاع موجة الغضب من جديد، هل ستتعامل الحكومة بنفس عقلية النظام الأسبق؟ أم أنّها ستطبق ما تعهّد به الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبّون؟ لكن ما الذي تعّهد به تبّون في برنامجه الانتخابي قبل أن يصبح رئيسا للبلاد؟

كان الرئيس قد تعهّد بحلّ كافة مشاكل التنمية بمناطق الجنوب من أجل تمكينها من المساهمة في خلق الثروة الاقتصادية، وتحدث خلال حملته الانتخابية عن استحداث مناطق للتجارة الحرّة بمحافظات جانت وإليزي، ولعل الوعود التي أطلقها الرئيس إمّا أنها تعطّلت بسبب انشغاله أولا بتعديل الدستور، ثم الانتخابات البرلمانية ثم تشكيل الحكومة، أيّ أنّ الانطلاق الفعلي لمشاريع الرئيس لم يتمّ بعد، أو أنّ المسؤولين المحلّيين مستمرّون في سياسات الحكومات السابقة، خاصة في مجالات التوظيف التي لا تعطي الأولوية لسكان الجنوب، والملفت للانتباه أيضا، هو أنّ موجة الاحتجاجات الأخيرة شملت محافظة ورقلة النفطية ثم انتقلت إلى ولايات محيطة بها، وهي ولايات استحدثت مؤخرا ضمن التقسيم الإداري الجديد، على أساس أنّ استحداثها كان من أجل تنمية مناطق الجنوب، وسبق للرئيس تبّون أن صرّح بهذا الخصوص بأنّ هذه الولايات الجديدة "مرآة تعكس حقيقة مدى قوة الدولة الجزائرية وقدرتها على تنمية مناطق الجنوب"، فالتحدّي إذن كان من أجل التنمية، فما الذي حدث؟ وهل احتجاجات ورقلة والولايات المجاورة لها في الجنوب حرّكتها أسباب أخرى غير مشاكل التنمية، السكن والبطالة؟ هل تغلغلت فيها حركتا "رشاد" الإسلامية و"الماك" الانفصالية من أجل إعادة بعث الحراك الشعبي من جديد بعد توقّفه مسيراته في العاصمة واقتصارها على منطقة القبائل فقط؟ وهل نحن أمام موجة حراك ثانية تكون انطلاقتها فعليا من ولاية ورقلة بالتحديد؟ 

إنّ الحديث عن موجة حراك ثانية تكون بديلة عن الحراك الشعبي الذي انطلق منذ 22 فبراير/شباط 2019، قد يكون سابقا لأوانه، أو ربّما يريد له البعض أن يكون كذلك، خاصة إذا ما اعتبرنا أن بعض من أنصار حرك "رشاد" الإسلامية، ما تزال تحاول التغلغل واختراق الحراك الشعبي واستغلال أيّ مسيرة احتجاجية مهما كان نوعها من أجل إضفاء عليها لون الحراك الذي تريده هذه الحركة، وليس ذلك الحراك الذي خرجت من أجله الملايين، أو يريد له أنصار "الماك" أن يكون بلون عرقي جهوي ينتهي إلى نتائج تخدم أجندة هذه الحركة الانفصالية، أي انفصال الجنوب عن الشمال، لكن لحدّ الساعة، لم تظهر التقارير الواردة من هناك أيّ مطالب سياسية رفعها المشاركون في المسيرات الاحتجاجية، سواء في ورقلة، أو الوادي، أو المحافظات الجديدة كمحافظة "المغيّر، المنيعة، الخ"، بل على العكس، كل ما خرج من أجله هؤلاء هو مطالب اجتماعية بالدرجة الأولى، وهي السكن، التشغيل والتنمية. هم يريدون حقّهم في العمل والمشاريع التنموية، وما يؤكد أنّ هذه الاحتجاجات ليست حراكا سياسيا سلميا، هو طريقة الاحتجاج، فنقرأ مثلا في جريدة "الخبر" الجزائرية أنّ بعض الشباب البطال في ولايات الوادي والمغيّر، قاموا بحركة احتجاجية مطالبين بالحق في مناصب الشغل في الشركات النفطية الوطنية والأجنبية العاملة بالمنطقة، وأنّه في ولاية الوادي أغلق الشباب البطال بقرية السويهلة مقر بلدية سيدي عون وآخرون من بلديتي الدبيلة وحساني عبد الكريم قاموا بغلق الطريق الوطني رقم 16 الرابط بين ولايتي الوادي وتبسة باستعمال المتاريس والحواجز البشرية، وهذا النوع من المسيرات لا يشبه مسيرات الحراك الشعبي التي لم تكن فيها مظاهر مثل هذه، إذن، يمكن القول هنا إنّ احتجاجات ورقلة وولايات الجنوب الأخرى هي من أجل ارغام الحكومة الجديدة المنبثقة عن البرلمان الجديد على الاستماع لانشغالات سكان الجنوب، خاصة وأنّ الرئيس تبّون كان تعهّد بمحاربة الفوارق بين سكان الشمال والجنوب، فقد كان في سنة 2020 أمر حكومة جرّاد الأولى، باتخاذ إجراءات للقضاء على الفوارق التنموية بين الولايات الشمالية وولايات الهضاب العليا والجنوب، وظهر وقتها مصطلح أطلق الرئيس وهو "مناطق الظلّ" كتعبير عن تلك المناطق المحرومة من ابسط شروط التنمية كالكهرباء، والماء الشروب، والطرق، وغيرها من سبل العيش الكريم. 

تحاول الحكومة الحالية تجريب سياسة الحوار مع مشايخ وأعيان المنطقة من أجل اقناع المحتجّين بالعدول عن حركتهم الاحتجاجية وحل الأمور بالحكمة، نقرأ في جريدة "الحوار" الجزائرية بأنّ والي ورقلة استقبل مجموعة من أعيان ومشايخ وأئمة وممثلي المجتمع المدني لبلديتي ورقلة وعين البيضاء للاستماع إلى انشغالات ممثلي المواطنين من المشايخ والاعيان والمجتمع المدني المتعلقة بالوضعية الحالية بالولاية في ظل تصاعد الاحتجاجات للشباب العاطلين عن العمل، وطبعا هذه الطريقة هي الأنسب في نظر الحكومة بما أنّ المجتمع الصحراوي معروف بطابعه العشائري والقبلي وأنّ المشايخ والأعيان لديهم كلمة مسموعة عند عامة الناس، لكن هذا كان دوما خطاب السلطة في فترة حكم بوتفليقة، أيّ كانت الحكومات تخمد نيران الغضب الشعبي بالاستعانة بالمشايخ من سكان المنطقة، لكن دون حلّ أسباب الأزمة من جذورها، لأنّ تجدد الاحتجاجات معناه بقاء الأوضاع على حالها، واليوم في ظلّ استمرار واتّساع رقعة هذه الاحتجاجات عبر المناطق المحيطة بولاية ورقلة، ما الذي تستطيع حكومة أيمن بن عبد الرحمن فعله ما عدا انتهاج سياسة الحوار كحلّ سريع، لأنّه لا يبدو أنّها تملك في الوقت الراهن حلاّ سريعا وسحريا يمكّن من اخماد موجة الغضب لدى شباب الجنوب، فحتى الساعة، لم تتضح بعد سياسة الحكومة، حيث لحد الساعة، لم يقدّم الوزير الأول مخطط عمل حكومته للبرلمان من أجل الموافقة عليه، ومنه يمكن القول في هذا الجانب بأنّ الحكومة الآن قد تضطر لحلّ سريع وربما سحري لإخماد نار الاحتجاجات، فهل ستنجح في ذلك وكيف؟