شهر رمضان قمريٌّ، بينما صوم رمضان شمسيٌّ: الجمع بين المواقيت القمرية والمواقيت الشمسية في الفقه الإسلامي، ورحمة الاختلاف في الشعائر والعبادات. 


يظن أغلب أهلنا في البلاد الإسلامية أن بداية الصوم يجب أن تكون واحدة عند جميع المسلمين، لأن شهر رمضان هو شهر فلكي واحد يمكن أن يتوافق عليه المسلمون إما بالرؤية الشرعية واشتراطاتها، أو بالحسابات الفلكية الموحدة عالمياً. 

وهذا (شرعاً وفلكاً) غير صحيح. 

🔹 أولاً، لأن المواقيت القمرية التي تتحدد بها الشهور كرمضان وذي الحجة، لا تتوافق مع المواقيت الشمسية التي تتحدد بها العبادات مثل الصلاة والصوم. وهذا تنوع أساسي في المنظومة الفقهية لا سبيل للخلاص منه. ولعله وجد أصلاً للتخفيف والتسهيل والرحمة، والله أعلم. 

🔹 وثانياً، لأن هذه المواقيت، قمرية وشمسية، تعتمد على الموقع الجغرافي للمكلف بالعبادة. 

ولذا، مثلما لا يصح عقلاً وشرعاً أن يطالب أحد بتوحيد ميقات صلاة الفجر مثلاً بين بغداد والدار البيضاء، فإنه لا ينبغي توحيد بداية شهر رمضان عموماً، أو بداية فعل الصوم عند الفجر خصوصاً، بين بغداد والدار البيضاء. 


🔸 سأشرح هذا. 


يولد الهلال الجديد حين يكون القمر بين الأرض والشمس على نفس "الطول البروجي" Ecliptic latitude

يسمى هذا بـ "الاقتران" Conjunction (أي يقترن ويتقارب وينعقد جرم القمر بجرم الشمس من وجهة نظر كوكب الأرض). 

أنظر منزل القمر رقم "1" في الرسم التوضيحي المرفق الذي أعددته بنفسي من رسم أصلي لم أعد أذكر مصدره. 

ومن هذا الاقتران يحدث ما يعرف في أدبياتنا الفقهية بـ "المحاق" أي امّحاق واختفاء ضوء القمر تماماً، لأنه واقع أمام الشمس بزاوية الاقتران، فنحن على الأرض يواجهنا النصف المظلم من القمر، بينما النصف المضيء يواجه الشمس من الناحية الأخرى. 


🔹هذه اللحظة الفلكية هي لحظة مولد الهلال وبداية الشهر القمري الجديد حسب الحسابات العلمية الفلكية، وهي لحظة كونية موحدة لا تتعلق بالموقع الجغرافي للرائي من كوكب الأرض. 

بعد هذا المحاق، يستمر القمر في حركته حتى يبدأ في الانزياح عن المحاق، وينعكس عندها ضوء الشمس من حافة القمر التي تشبه حينها شكل الهلال ضرورةً بسبب كروية الجرم القمري (أنظر منزل القمر رقم "2" في الرسم التوضيحي). 

هذا الهلال المضيء المنعكس هو ما نراه من على سطح كوكبنا، وهو يعتمد اعتماداً كاملاً على موقعك الجغرافي. 


🔹وهذه هي لحظة مولد الهلال الشرعي وبداية الشهر القمري الجديد حسب جميع المذاهب الإسلامية، دون استثناء (سنة وشيعة وإباضية).


  • إذن، لدينا الآن هلال علمي فلكي يولد في لحظة الاقتران الفلكية التي تعم جميع كوكب الأرض. 


  • وهلال شرعي يولد في لحظة أخرى بعدها مباشرة، يظهر فقط لمن حالفه الحظ جغرافياً ليراه. 


🔸ولكن! 

الهلالان الفلكي والشرعي، كلاهما لا يوحّدان بداية الصوم للمسلمين كافة، مهما حاولنا. 


🔸لماذا؟ 

لأنه وبينما يتّبع الشهر الإسلامي (في تحديد بدايته ونهايته) الحركة القمرية، فإن بداية فعل الصوم نفسه تحددها الحركة الشمسية. 

وهذا هو الاختلاف الذي لا حل له! 

أو لنقل أنه الاختلاف الذي جعله صاحب الشريعة لغاية الرحمة، وترسيخاً للتنوع، وتبياناً للفوارق بين أقاليم الأرض. 

كيف؟ وضّح يا سيّد! 

تمام، للتوضيح فافهموا أولاً أن "اليوم" في الفقه الإسلامي يتحدد بحركة الشمس (الظاهرية طبعاً) فتكون بدايته عند غروب الشمس ونهايته عند غروب شمس اليوم الذي يليه. 

وفي بعض أحكام الإسلام يكون اليوم الفقهي من الفجر إلى فجر اليوم الذي يليه، كما في وقوف يوم عرفة مثلاً.

ولا يهم أي التعريفين نأخذ الآن، فالنتيجة واحدة، لأننا انتقلنا فجأة من التوقيت القمري للشهر إلى توقيت آخر شمسي لليوم! 

ولكن لنأخذ التعريف الأول (من الغروب إلى الغروب) لأنه المعتمد فقهياً فيما يخص بداية شهر رمضان. 

لحظة الاقتران Conjunction، أي لحظة ميلاد القمر الفلكي (أو لحظة خروج القمر من المحاق إلى أول منزل الهلال)، هذه اللحظة ستقع ضرورةً بالنسبة لسكان المعمورة عند أوقات مختلفة قبل المغرب وبعده حسب موقعك على ظهر كوكب الأرض.

بمعنى إن ولد الهلال مثلاً الساعة السابعة مساء بتوقيت الدار البيضاء، وهي الساعة العاشرة مساء بتوقيت بغداد، فهذا معناه أنه ولد قبل الغروب بنصف ساعة مثلاً في الدار البيضاء (وبالتالي فإن اليوم الفقهي لم يبدأ بعد)، وعليه فإن أهلنا في دولة المغرب يصيمون صياماً واجباً عليهم. وأما في بغداد فيكون الهلال قد ولد بعد الغروب بـ 3 ساعات أو 4 مثلاً (وبالتالي فإن اليوم الفقهي قد بدأ فعلاً قبلها)، فلا يصح لهم صوم يوم ناقص!

بل إن رمضان قد لا يكون واحداً حتى بين الاسكندرية ومرسى مطروح المصريتان مثلاً وبينهما 250 كيلومتراً أفقياً لا غير، وهما في بلد واحد! 

"المشكلة" كما أسلفت هي في ازدواج المواقيت: قمرية وشمسية - رمضان قمري، بينما فعل الصوم نفسه شمسي. 

وفي اختلاف الموقع الجغرافي! 

إذن، الحل هو إما القبول باختلاف بدايات الشهر الكريم بصدر رحب (لأن هذه من عواقب الجغرافيا، وضرورات ازدواج المواقيت الإسلامية بين القمري والشمسي)، ونعتبر أن هذا ربما لحكمة من الشارع في ترسيخ رحمة الاختلاف، وتوافقاً مع مواقع الأقاليم. وهي حكمة تليق بالشارع وشريعته الغراء. 

أو إن أصرّ أهلنا المسلمون، ونحن منهم، إصراراً - وألحّوا إلحاحاً - أن يوحّدوا رمضانهم وصومهم، فعندها يمكن أن يتفقوا جميعاً على اعتبار موضع واحد (مكة المكرمة مثلاً) هي نقطة المرجعية الجغرافية في مولد الهلال وميقات غروب الشمس ودخول الفجر، وبالتالي بداية رمضان. وهم مضطرون أصلاً إلى التوافق مع مكة في تحديد بداية ذي الحجة وإلا لن يتمكنوا من أداء مناسك شعيرة قمرية أخرى هامة: الحج! 

وهذا حل ناقص لأنه سيؤدي إلى تناقضات أخرى تتعلق بالعبادات والشعائر، أشار إليها علماء الأمة.        

ولا تنسوا، حتى مواقيت الصلاة (وهي مواقيت شمسية خالصة لا دخل للقمر فيها) ليست واحدة لأنها تتحدّد بكروية الأرض واتساع أطرافها ودورانها حول نفسها، وبحركة جُرم فلكي آخر هو هذه المرة: الشمس!


فنحن لا نرى أحداً يطالب بتوحيد صلاة الفجر بين بغداد والدار البيضاء! 

                                          وكل العام وأنتم، وأهلنا المناهضون للظلم، بخير وقوة ونصر من عند الله.


قولوا: آمين!

_________

Image caption

مرفق: رسم توضيحي عدّلت فيه، وأضفتُ إليه، حتى جعلته على هذه الصورة المفيدة مع المقال.