مصطفى حفيظ

قال الأديب الجزائري كاتب ياسين يوما عن اللغة الفرنسية: "تظّل اللغة الفرنسية غنيمة حرب، ماذا يعني أن نُعيد الغنيمة لصاحبها بعد انتهاء الأعمال العدوانية ..."، من هذه المقولة تتضحّ قناعة هذا الكاتب الذي كتب معظم أعماله باللغة الفرنسية لكنه عبّر عن واقع بلاده الجزائر، وسواء أكانت العربية أم الفرنسية، فهموم الشعب واحدة وكيفما تمّ التعبير عنها فهي تنطلق من وجدان الكاتب، لكن أن يُتهم الكاتب في انتماءه ووطنيته لمجرد أنه لم يكتب بلغة وطنه فذلك ما يجب الوقوف عنده، فالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية أو ما يصطلح على تسميته بـ "الأدب الجزائري الفرنكفوني" كان وما يزال محلّ جدل في الأوساط المثقفة الجزائرية، ضمن ما يسمّى صراع الأدباء المعرّبين والمفرّنسين، لماذا مثلا، طعن الروائي الراحل الطاهر وطار في وطنية وانتماء الكتّاب الجزائريين الفرنكفونيين؟ ما خلفية ذلك؟ وما حقيقة هذا الأدب؟ وهل يحتاج الانتماء للوطن إلى لغة بعينها؟ 

قبل البدء، يجب الإشارة إلى أن الأدب الجزائري الفرنكفوني هو كل تلك الأعمال التي أنجزها كتّاب جزائريون يكتبون باللغة الفرنسية، أعمال في الشعر، في الرواية والسرد، أو حتى في القصة القصيرة والمسرح، فهم سواء لسوء حظّهم أو لحسن حظّهم، عثروا على هذه اللغة في زمن لم تكن هناك لغة أخرى مسموح تعلّمها في المدارس الحكومية في فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، تماما مثل محمد ديب، أو كاتب ياسين، أو آسيا جبّار أو مولود فرعون، أو مولود معمري، وغيرهم، هؤلاء ينتمون إلى هذا الأدب الذي يسمّى فرنكفوني، أدب ناطق بالفرنسية، حيث لغة التعبير هي لغة مستعمر الأمس-فرنسا، مثلما يقول من يرفضون "جزائرية هذا الأدب" ويشكّكون في هويته وانتماءه للأدب الجزائري.

لم يكن هناك أدب جزائري مكتوب باللغة العربية قبل استقلال الجزائر في 1962، وكل الكتابات سواء شعر أو رواية أو قصة أو سرد، كلها كُتبت باللغة الفرنسية حيث لم يجد المبدع الجزائري في زمن الاستعمار الفرنسي غير لغة المستعمر ليُعبّر بها عن همومه الأدبية، إذن من هذا المنطلق تتضح معالم ظهور ما يُسمى بالأدب الجزائري الفرنكفوني، لكن ينبغي التفريق بين ذلك الذي كُتب قبل تسعينيات القرن الماضي وذلك الذي جاء بعد التسعينات، من حيث أنّ هاجسّ الكتّاب ما قبل الثورة، أو ما قبل 1962 (تاريخ الاستقلال)، كان هناك الهاجس الوطني، أو سادت ثيمات مثل: الأرض، الوطن، الثورة، التحرر،...الخ، من هؤلاء الكتّاب في نوع الشعر والرواية: محمد ديب، آسيا جبار، كاتب ياسين، مولود معمري، مولود فرعون، رشيد بوجدرة، وفي الشعر، هناك: الطاووس عمروش، جون سيناك، كل هؤلاء كان هاجسهم مشتركا، وهو حبّ الوطن.

كانت ثلاثية محمد ديب "الدار الكبيرة، الحريق، والنول" التي نشرها بالفرنسية سنة 1952، مشبّعة بالروح والهوّية الوطنية الجزائرية، فهل كان عليه مثلا أن يكتب هذه الثلاثية بالعربية حتى يثبت للقارئ أنه يملك حبّا للوطن، وأن يثبت هويّته الجزائرية؟ طبع لا، لأنّه في أعماله قبل 1962، استطاع أن يلخّص هموم الشعب الجزائري المتعطّش للحرية والتحرر من نير الاستعمار الفرنسي، إذن، هل يحسُن أن يُتّهم ديب أو أحد من أمثاله من كانوا ينشرون أعمالهم الإبداعية قبل الاستقلال بالفرنسية، بعدن انتمائهم للوطن – الجزائر؟ أو بالأحرى، أين كانت الأعمال المكتوبة باللغة العربية عندما كان الكتّاب الفرنكفونيين يؤلّفون أعمالهم الروائية والشعرية كي يعبّروا بها عن همومهم وهموم شعبهم؟ مع العلم أنّ أول رواية باللغة العربية في الجزائر كانت "ريح الجنوب" للروائي الجزائري عبد الحميد بن هدوقة سنة 1971. 

بعد 1962، أي بعد الاستقلال، قال محمد ديب مقولته المعروفة وهي: "اليوم انتهت مهمتي أدبيا مع الجزائر." وكان يقصد أن أعماله التي ألّفها قبل الاستقلال، كانت تحمل الهاجس الوطني، لكن كانت تلك المقولة بمثالة الإعلان عن تحوّل أسلوبه في الكتابة والنوع الأدبي، حيث اتجّه إلى أشكال جديدة في الرواية، ظهرت في أعماله اللاحقة، كثلاثية الشمال، التي أوضحت هذا التوجّه نحو مواضيع أكثر عالمية، حيث صار يكتب للعالم ونسان، وتجلى ذلك في أعماله اللاحقة، أما الآخرين من الذين بقوا في الجزائر فتغيّروا برغم أن أعمالهم كانت مشبعة بالوطنية لكن طغت على كل واحد منهم قناعاته الأيديولوجية، فمثلا كاتب ياسين، كانت أعماله مثيرة للجدل دوما، برغم رائعته "نجمة"، رواية أوصلته للعالمية، حتى أنه اتجّه للمسرح أكثر من الرواية، وكتب مسرحيات باللهجة الجزائرية الشعبية، وكانت أعمال منتقدة للسلطة وللواقع الاجتماعي.

ظهرت لاحقا الكتابة المتمردة مع رشيد بوجدرة، تميّز بأسلوب سردي متمرد جمع بين التجديد والخطاب السردي والأيديولوجي والوطني، يظهر ذلك التوجه في أعماله مثل "ألف عام وعام من الحنين، معركة زقاق..."، برز في وقته كتّاب آخرين لكنهم لم يستمروا منهم مالك حداد، هذا الأخير أعلن تخلّيه عن الكتابة باللغة الفرنسية متأثرا ببداية موجة تتهم الأدب الفرنكفوني في هويته وانتماءه للأدب الجزائري يقودها معرّبون، وهو ما أثر فيه كونه لم يكن يتقن العربية فقرر التوقف لقناعة ايديلوجية فيما يبدو، دون أن يكتمل مشروعه، يتجلى ذلك في بعض أعماله ك: "رصيف الازهار لم يعد يجيب"، وهي رواية نفهم من قراءتها انكساره، كان طبعا عدم قدرته على التعبير بغير الفرنسية ما جعله يتوقف، أثّر فيه أبوه وتصاعد المد القومي العربي آنذاك.

هل قاد الإسلاميون الحملة ضد الأدب الجزائري الفرنكفوني؟

كان مالك حداد روائيا وشاعرا جزائريا فرنكفونيا، كل أعماله كتبت بالفرنسية، مع ذلك قرر فجأة التخلي عن الكتابة بهذه اللغة، مشكلته أنه لم يكن يكتب بالعربية، لكن الحقيقة أن تلك الموجة التي قادّها معرّبون ضد هذا الأدب، كانت تحمل في طيّاتها أيديولوجيا اسلاموية، حاول الإسلاميون وقتها، ومعهم القوميون المعرّبون، أن يختصروا الأدب الجزائري في كل ما يكتب بالعربية فقط، ثم إنّ الحرب كانت أيديولوجية في حقيقة الأمر، سواء أكان كاتب ياسين اشتراكيا أو شيوعيا، لا فرق بالنسبة لهم، المهم أن محاولات الكتّاب والأدباء الذين ركبوا الموجة، كانت سدّ الطريق أمام الأدب المفرنسّ "المكتوب بالفرنسية" من كتّاب جزائريين، كان المسعى اتهامهم باللانتماء وبعدم عروبة هذا الأدب، برغم أن الأدب في حقيقته يكتب للإنسان والعالم. 

قلنا إذن بأنّ مؤلّفين إسلاميين حاول التأثير أدبيا على الساحة الأدبية الجزائرية، لا يمكن القول أنّه كان هناك مشروعا أدبيا إسلاميا (بحجة تلك الدعوات إلى العروبة والإسلام)، في مقابل النضال الثقافي الذي كان يقوده مثقّفون وأدباء جزائريون يكتبون بالفرنسية، كاتب ياسين مثلا، تعرّض للتحامل من طرف الإسلاميين، وبالتحديد الاخوان، أبرز أولئك الذين قادوا الحملة كان الاخواني محمد الغزالي الذي كان لاجئا بالجزائر، اتّهم كاتب ياسين بمعاداة العرب والإسلام من خلال مسرحيته "محمد خذ حقيبتك"، وهو العمل المسرحي الذي كتبه تعبيرا عن انتقاده للعنصرية الفرنسية ضدّ المهاجرين المغاربيين في فرنسا، ولم يكن لها علاقة مطلقا لا بالعروبة ولا بالإسلام، لكن حملة التشوية تلك قدها الإسلاميون محاولة منه السيطرة على الساحة وأخلقة الأدب، أو بصريح العبارة، عربنة الأدب الجزائري، برغم أنّ هذا الأخير كان يحمل في مكنونه هموم الوطن والشعب.

حاول الإسلاميون إذن التأثير في الساحة الأدبية بطرح فكرة متعصّبة للأدب العربي والإسلامي، بحجة الكتابة بلغة الإسلام وهي العربية، إذن واضح من هذا بأن الفكرة كانت أيديولوجية ولم تكن ذات بعد أدبي اطلاقا، الهدف كان زرع فكرة مسمومة تسمم كل المحالات الأدبية في تلك الفترة، ولم تكن فكرة أخلقة الأدب قوية لكنها أثّرت على البعض، لم يتأسس أي أدب إسلامي لكن سموم الفكرة بقيت، إلى حدّ ظهرت تلك المحاكمات الدينية للأدباء.

الطاهر وطار والأدب الفرنكفوني

في الحقيقة، كان التهجّم على الأدب الفرنكفوني الجزائري في أول الأمر من جانب الروائي الطاهر وطار، وهو رواية معرّب، ثارت ثائرته عندما شعر بأن الفرنسيين عندما نظّموا ندوة في فرنسا حول الأدب الجزائري، وكان هو حاضرا رفقة أدباء وكتّاب جزائريين، أنهم تعاملوا مع الكتّاب المفرنسين فقط بينما لم يأت على لسانهم ذكر الأدب الجزائري المعرّب، وطبعا جعله ذلك يشعر بالغضب، فأثار مباشرة بعد عودته للجزائر المسألة وسأل هل فعلا الأدب الفرنكفوني جزائري الهوّية، ربما تربّت لدى وطار عقدة اتجاه هذا الأدب، لكن إلى أي مدى كان على حق عندما في هوّية هذا الأدب الجزائري الانتماء بدليل الأعمال التي كانت تكتب وتحمل هموم الجزائر وشعبها؟ 

صحيح أن بعض الكتّاب كانت لهم توجّهات وميول للكتابة عن العالم، عن الانسان، لكن هل يصحّ اتهامهم بأنهم كتّاب غرباء عن أوطانهم بسبب اختيارهم للغة غير لغة وطنهم؟ وهل يحتاج الكاتب فعلا إلى لغة معيّنة يكتب بها؟ أم فقط العقدة اتجاه لغة مستعمر الأمس، فعندما قاد الطاهر وطار الحملة الأولى ضد الأدب الفرنكفوني في الجزائر كانت حملته مبنية على مواقف ثقافية وأدبية، من منطلق موقع أدبي معترف به، لكن الحملة الثانية بدأتها أسماء معرّبة لم تمتلك الرصيد الادبي والثقافة، ما حرّكهم كانت العقدة، عقدتهم اتجاه اللغة الفرنسية لأنهم لا يكتبون بها، أو لا يتقنونها، ولم يكن لهم موقعا أدبيا قويا، يمكن في السياق ذاته، ذكر تلك الحملة التي تعرّض لها هذا الأدب من بعض الأطراف التي لا تقرأ الأدب المفرنس أو لا تقرأ الأدب اطلاقا، ما همّها هو فقط التهجّم على هذا الكاتب أو ذاك لأنه كتب عن طابوا معيّن أو أنه تحدّث عن الخمر أو الجنس أو الدين، هناك كانت تلك الحملة التي سبق أن شنّها الإسلاميون حول أخلقة الأدب، قد عادت لتظهر مع حملات إعلامية قادتها قنوات معيّنة على بوعلام صلصال مثلا، أو على كمال داوود.

ما يمكنه قوله في الأخير، هو أن هذا الأدب الفرنكفوني الجزائري ظلّ في كل توجّهاته ومراحله منتميا للجزائر، ولا يجوز برأينا اتهام أدب ما في هوّيته، برغم أنّ الأدب في حدّ ذاته غير ملزم بالهوّية ولا باللغة التي يُكتب بها، لأن الحقيقة هي أنّ الابداع هو ابداع بأي ّ لغة كُتب، فضلا عن كون إشكالية اللغة في الجزائر هي مسألة أخرى، ليست مرتبطة بالأدب بقدر ارتباطها بمسألة الهوية والانتماء، القضية بدأت مع بداية مشروع القومية العربية، بحيث حاول القوميون العرب السيطرة على الساحة الثقافية والسياسية بفرض المشروع القومي العربي، برغم أن المنطقة المغاربية ذات خصوصية لكونها أولا، ذات بعد أمازيغي (بربري)، برغم تعرّب معظم شعوبها، وأيضا، هناك نضال ثقافي في داخل هذه البلدان صعب ازاحته من الوجود لأجل فرض مشروع قومي عربي أيديولوجي، ثم كان الإسلاميون مثلما أشرنا فوق، هم أيضا حاولوا فرض مشروعهم النهضوي الذي قاده الاخوان بالأخص، في الجزائر، مع تلك الحملات ضدّ كاتب ياسين، واتهامه بمعاداة الإسلام العروبة، إذن، فالمسألة ليست في انتماء الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية وإنما هي مشروع أيديولوجي اسلاموي بالدرجة الأولى يحارب كل ما يخالف منطلقاته، ولما كان الأدب الفرنكفوني غير معرّب، كانت هذه الحملة ضدّه.