برهان هلّاك

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد في أكتوبر من سنة 2021 عن إطلاق استشارة شعبية إلكترونية تكون بدايتها في منتصف جانفي الجاري، وعلى أن تنتهي في 20 مارس الموافق لذكرى عيد الاستقلال بتونس. كما صرّح الرئيس في خطابه المطول آنذاك بتفاصيل هذا الاجراء الاستفتائي إذ أشار إلى تكوين لجنة سيتم تحديد أعضائها وتنظيم اختصاصاتها لاحقًا لتقوم بالتّأليف بين جملة الآراء والأفكار المستمدّة من نتائج الاستشارة في أجل زمني لا يتجاوز شهر جوان 2022. ويتزامن انطلاق الاستشارة الالكترونية في تونس مع بلوغ الثورة التونسية 11 عاما ، وهو حرص قد يعكس إضفاء رمزية عليها بوصفها إحدى أضلع الرؤية الشاملة لحلّ الأزمة السياسية في البلاد. ولكن الاعلان عن هذا الاجراء وانطلاقته يأتي في سياق عاصف نتيجة للانقسامات وردود الفعل المتباينة بين ما يؤكده الرئيس ويسطّره لينفذه فريقه الحكومي، وبين المعارضة التي تلقاها الاستشارة.

لقد نافح الرئيس التونسي قيس سعيد خلال اجتماعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن في 10 جانفي الجاري عن الاستشارة الإلكترونية بوصفها أساسا لعملية إصلاح سياسي واسعة النطاق وفي إطار خارطة الطريق التي كان قد أعلن عنها  في 13 ديسمبر من سنة 2021. ويتعهد قيس سعيد بأن الاستشارة الشعبية تهدف بشكل مباشر إلى تثبيت ملامح مستقبل البلاد على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما يعزز الرئيس دفاعه عن هذه الخطوة الاستفتائية بالتذكير بأنها آلية تمت تجربتها في مناسبات سابقة وذلك في العديد من الدول من قبيل التشيلي والبرازيل وفنزويلا، حيث أدت مهمتها بنجاح إذ عرّفت بتوجهات وآراء وتطلعات المواطنين في ما يخصّ جملة من المواضيع والقضايا التي تهمّ مواطني تلك الدّول.

ويقول الرئيس التونسي، ومناصروه من ورائه، أنّ هذه الاستشارة الإلكترونية تكشف عن رغبة محمودة في تبين ملامح الرأي العام التونسي إزاء ما تم إقراره من تدابير في السابق، وتقصّي الآراء بشأن ما سيتمّ اتخاذه من تدابير مستقبلا. إنها في اعتقاد المعسكر المؤمن بالرئيس قيس سعيد ومبادئه فرصة لخلق شرعية لاستكمال الإصلاحات السياسية والدستورية المستقبلية. كما أنها بالنسبة لهم ردّ ديمقراطي سليم على الاتهامات الموجَّهة للرئيس بافتتاح مسارات انفراد بالسّلطة. ويعلّق دعاة الاستشارة الوطنية آمالا على هذا الإجراء إذ يرونه ضرورة مؤكدة في سبيل إنهاء حالة الجمود السياسي والعطالة التشريعية المستمرة منذ 25 جويلية 2021، بل ومعالجة للمأزق الاقتصادي عبر وضع خارطة طريق لإعادة البلاد إلى الممارسة الديمقراطية والشفافية التي تعيد ثقة المانحين وأعلام السوق المالية من دول ومؤسسات. ويتمثّل المؤيدون الاستشارة الإلكترونية باعتبارها فرصة حقيقية لتصويب الزلّات الفادحة التي ارتكبها النظام السياسي السابق والحكومات المتعاقبة خلال السنوات العشر الأخيرة. فوفقا لهم، ستتيح هذه الآلية الاستفتائية الفرصة أمام فئات متنوعة من الشعب التونسي للتعبير عن آرائهم بحرية ونزاهة ودون قيود من أحد، ومن ثمّة ايصال أصواتهم وتصوراتهم إلى مؤسسة الرئاسة والحكومة التونسيّتين اللتين ستأخذانها في الحسبان عند موعد تنفيذ الإصلاحات السياسية والدستورية.

وفي المعسكر المقابل، ازدادت حدة الانتقادات الموجهة لهذه الاستشارة وارتفعت الأصوات الداعية إلى مقاطعتها. فهي حسب المعارضين لها آلية فاقدة للقدرة على فتح حوار حقيقي بين مؤسسات الدولة ومكونات الشعب التونسي المتنظمة في أحزاب وقوى سياسية ومجتمعية وهيئات المجتمع المدني. وهي بذلك بديل فاسد اجرائيا لا يمكن بناء حوار سياسي حقيقي على أسسه، وسيسفر عنه استمرار حالة العطالة السياسية المتفاقمة حاليا. إن إقرار هذه الاستشارة هو تطبيق لقناعات الرئيس قيس سعيد التي تقصي الأحزاب السياسية من أي تحاور وطني محتمل، وهو ما أفضى إلى حنق هذه الأحزاب التي أضحت معارِضة لفكرة الاستشارة الإلكترونية ومستندة في ذلك إلى أن هذه الاستشارة تتناقض مع ما وعد به الرئيس عند إعلانه خارطة الطريق في ديسمبر 2021، أي تعهده بإقامة حوار فعلي في المحافظات والمدن بشكل مباشر بين الرئيس والمواطنين.

ولا يكتفي المناوئون لهذه الاستشارة بذلك، بل يسعون إلى تقويض أي فاعلية لهذا الاجراء عبر التشكيك في قدرة هذا الأسلوب على طرح حلول للمشاكل والمعضلات المحلية ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يمكن الاعتماد على ما ينتج عنها من نتائج في رسم ملامح المستقبل السياسي التونسي، بل السبيل إلى ذلك، حسب ادعائهم، إجراء حوار وطني صادق بين الرئيس وحكومته والأحزاب والمتدخلين السياسيين والأطراف المجتمعية بغية إنضاج حلول فعّالة تنهي الأزمات المتتالية. وبمناسبة الحديث عن معارضة مكونات المجتمع المدني للاستشارة الوطنية الإلكترونية، قالت ممثلات وممثّلو 32 جمعية اجتمعت أيام 8 و 13 و19 جانفي الجاري في إطار مرصد الدفاع عن الحق في الاختلاف في بيان مشترك أنّ هذه الاستشارة بشكلها الحالي لا يمكن أن تعكس بأي حال حقيقة المواقف في اختلافها، وأنها لا يمكن أن تعبّر على تطلعات كل التونسيات والتونسيين إذ لا تراعي الفجوة الرقمية صعوبات النفاذ إلى شبكة الانترنت بمناطق عديدة بالبلاد. كما أكدت هذه الأطراف المجتمعية على ضعف منسوب السلامة المعلوماتية إذ لا تحمي المنصة الرقمية الرسمية للاستشارة بشكل كافٍ المعطيات الشخصية في صورة ضرورة الاستعانة بأشخاص آخرين لملء الاستمارة. وهي لا تضمن كذلك عدم استخدام البيانات المخزنة لاحقا لأي غرض كان. إن الاستشارة الالكترونية الوطنية لا يمكن أن تعوّض حوارا يشرك جل الأطراف ويشمل كل القوى المدنية والاجتماعية والسياسية، وبذلك فإنها ستكون عاجزة عن ضمان الشفافية في ما يتعلق بمنهجيّات سبر النتائج ومدى مصداقية وحيادية وموضوعية اللجنة التي سيتم تكليفها بإعداد بالتقرير التأليفي.

أخيرا، تعبّر بعض الأحزاب الرافضة لمسار ما بعد 25 جويلية 2021 اجمالا وللاستشارة الالكترونية على وجه الخصوص (حركة النهضة و حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحزب التيار الديمقراطي) عن رفضهم للاستشارة الإلكترونية التي أقرها الرئيس قيس سعيد، مبرّرين ذلك بالتأكيد على أن هذا الجراء سيتسبّب في تعطيل المسار الديمقراطي في البلاد. وهو ما دفع هذه الأحزاب لدعوة الشعب التونسي لمقاطعة الاستشارة الإلكترونية، واعتبارها انقلاباً على الشرعية الانتخابية باعتبارها لا تعكس إرادته الحقيقية. كما تشكّك هذه الأحزاب في نزاهة ومصداقية مخرجات الاستشارة مستقبلا نظراً لكونها خاضعة لسيطرة ورقابة السلطة التنفيذية، وبالتالي فهي تُعدُّ أداة لتطويع الرأي العام وإرساء لمنظومة دستورية جديدة حسب ما يذهبون إليه.

ترجّح المؤشرات المتوافرة إلى محدودية فعالية دعوات المقاطعة التي تقوم بها أطراف متعددة من أبرزها "حراك مواطنون ضد الانقلاب"، وذلك نظراً لضعف موقفهم باعتبار الاتهامات الموجَّهة إليها بالفساد والإرهاب. وفي المقابل، هناك توجه كبير داخل المجتمع التونسي نحو تفعيل مشاركته في الحياة السياسية، على الرغم من الضباب الذي يتكثف على مآلات هذه الاستشارة الوطنية ومدى نجاعتها في حل النكبات التي لم تفارق البلاد منذ سنين عديدة.