دفعت الأزمات العالمية الممتدة خلال العقود الماضية إلى الاهتمام بتقديم تحليل معمق ومراجعة دقيقة للنماذج الاقتصادية الحالية، وذلك بهدف التماس مسارات للتنمية المستدامة للحد من شأفة الفقر وزيادة الرفاهية البشرية، ويعود الفضل في إطلاق مفهوم الاقتصاد الأزرق إلى رجل الاقتصاد البلجيكي غونتر باولي وذلك في أعقاب المبادرة العالمية التي أطلقتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في عام 2012 من خلال أعمال مؤتمر البيئة العالمي في مدينة ريودي جانييرو البرازيلية، أي أن هذا المصطلح هو مفهوم شديد الحداثة، وبقدر ما يهدف الاقتصاد الأزرق إلى تحسين حياة الأشخاص وتعزيز العدالة الاجتماعية إلا أنه يهدف في الاساس إلى الحد من المخاطر البيئية وندرة الموارد والحد من السلوكيات التي تؤدي إلى تغير المناخ، والى المحافظة على سلامة المسطحات المائية كالبحار والمحيطات من التهديدات المتنامية كالتلوث والصيد الجائر والصيد غير القانوني وإرتفاع منسوب المياه الناتج من التغيرات المناخية، وهو يؤكد على صون الإدارة المستدامة للموارد المائية إستناداً إلى فرضية أن النظم البيئية السليمة للبحار والمحيطات هي أكثر إنتاجية بحكم انها تغطي اكثر من ثلثي مساحة الكوكب، ويُعد «الاقتصاد الأزرق» حسب رأي العديد من الخبراء والمحللين الاقتصاديين بأنه جبهة جديدة للاستثمار في الموارد المائية، بل يعتبر من أهم مواضيع التنمية المستدامة والتي تهدف لإدارة جيدة للموارد وبالاخص المائية، وحماية البحار والمحيطات بشكل مستدام للحفاظ عليها من أجل الأجيال الحالية والمستقبلية، كما ويعتبر الاقتصاد الأزرق دافعاً لتطوير الآليات والإجراءات التي تدعم الأمن الغذائي.

ويمكن تعريف الاقتصاد الازرق بأنه الإدارة الجيّدة للموارد المائية، وأنه يسعى لتسخير المزيد من إمكانات المحيطات والبحار والسواحل فى التنمية المستدامة، أو يمكن تعريفه أيضاً بأنه مجموعة من الأنشطة البشرية إعتماداً على البحر و قد يكون مدعوماً بالتفاعلات البرية والبحرية في سياق التنمية المستدامة، وبالتالي فهو يغطي مجموعة واسعة من القطاعات نذكر منها:- الطاقة البحرية والطاقات النظيفة من البحر، والصيد المستدام ، وتربية الأحياء المائية، وأنشطة النقل البحري والنهري، والسياحة الرفيقة بالبيئة، وتحسين المناخ وإدارة النفايات ،والمناطق البحرية المحمية، والبحث والابتكار وريادة الأعمال، والسياحة الشاطئية، وسياحة اليخوت والغوص والصيد، وإستخراج البترول والغاز من أعماق البحار والمحيطات، وإعادة إستخدام مياه الصرف الصحى، وأنشطة الموانئ اللوجيستية، والصناعات البحرية الثقيلة والخفيفة، وودعم الأمن الغذائي بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء، وتوفير فرص العمل، والقضاء على الفقر في نهاية المطاف.

لقد أشار الدكتور السيد الصيفي إلى أن الاقتصاد الأزرق يعتمد على عدة ركائز من بينها:-  الابتكار، والإبداع والبحث العلمي والتطويرمع وجود نظام فعال من الروابط التجارية مع المؤسسات الأكاديمية والجامعات والمراكز العلمية والبحثية والتي تستطيع مواكبة ثورة المعرفة العلمية والتقنية، وإستيعابها وتكييفها مع الاحتياجات المحلية، وكذلك التدريب والتعليم واللذان يُعدان من الاحتياجات الأساسية للإنتاجية والتنافسية للتنمية الاقتصادية الوطنية المستدامة، وأضاف أن مضاعفة حجم الاستثمارات في هذا المجال يحتاج من الدول إلى قوانين أكثر مرونة لكي تسهم بدورها في توجيه الصناعات البحرية وتشجع نموها وأن تجعلها أكثر ديناميكية ، ومن المُفضل أن تكون بتمويل من البنوك المحلية.

الخبير الاقتصادي James Ellsmoor بدوره أكد أنه من المتوقع وعلى الصعيد العالمي أن ينمو الاقتصاد الأزرق بمعدل مضاعف عن بقية الاقتصادات بحلول العام 2030، وأضاف أن الاقتصاد الأزرق يُعد مفتاحاً ليس فقط لصحة بيئتنا، ولكن أيضًا لتسريع النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل ومحاربة الفقر، ورغبةً منهم في الاستثمار في الاقتصاد الأزرق فقد قام قادة العالم والعلماء بإجراء محادثات استراتيجية حول مستقبل محيطاتنا في المؤتمر الأول للاقتصاد الأزرق المستدام والذي عقد في نيروبي بكينيا منتصف شهر نوفمبر من العام الماضي، حيث حضره العشرات من القادة والزعماء وخبراء المحيط والناشطين لمناقشة كيفية إستخدام المحيط بشكل مستدام، ودعا بكل وضوح إلى إعتبارالوسط البحري من أدوات  التنمية الاقتصادية، كما دعا أيضاً إلى تحسين صحة المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار والنظم البيئية التي تدعمها، وأنها لازالت تتعرض لتهديدات وتراجع متزايد في جميع أنحاء العالم. 

ومن جانب آخر فقد أوضح الاتحاد من اجل المتوسط بأن منطقة البحر المتوسط تضم 450 ميناءاً وحوالي 30 ٪ من التجارة العالمية البحرية تمر أو تُفرغ بموانئ المتوسط، كما أن البحر الأبيض المتوسط يعد ثاني أكبر وجهة في العالم للسياحة الشاطئية، وأضاف أن القيمة الاقتصادية الحالية للاقتصاد الازرق بالمنطقة هي كبيرة بالفعل، حيث أن أصول ومساهمات القطاع البحري في إقتصاد ضفتي المتوسط كانت ملحوظة ، وقد وفرهذا النوع من الاقتصاد أكثر من 3.5 مليون وظيفة حتى الآن، وأن قطاع السياحة الشاطئية لوحده قد شكل أكثر من 79% من إجمالي فرص العمل، وعلى سبيل المثال: فإن منطقة المثلث المرجاني الواقعة بين إندونيسيا وماليزيا وبابوا غينيا الجديدة والفلبين وجزر سليمان وتيمور الشرقية تحتوي على بعض أغنى مصادر التنوع البيولوجي على كوكب الأرض، أو ما يعادل غابات الأمازون المطيرة، وأن %76 من كل الأنواع المرجانية المعروفة، وأكثر من 3000 نوعاً من الأسماك توجد بهذا المثلث، وتُقدَّر قيمة المصايد المرتبطة بالشعب المرجانية في إندونيسيا والفلبين وحدهما بنحو 2.2 مليار دولار سنوياً، كما وصلت قيمة السياحة المرتبطة بالشعب المرجانية بنحو 258 مليون دولار سنوياً، مع إعتماد زهاء 120 مليون شخص في المنطقة بشكل مباشرعلى الموارد البحرية في الحصول على الدخل وكسب الرزق والغذاء،أما منطقة جزر المحيط الهادي كمثال آخر، فتضم عدداً من الدول الجزرية النامية الصغيرة، وتقدم ثلث إنتاج العالم من التونة أوما تزيد قيمته عن 4 مليارات دولارسنوياً.

من جهته أكد الخبير الإماراتي نايل فالح الجوابرة أن جهود دول مجلس التعاون الخليجي في الفترات الأخيرة صبت نحو الاستثمار في المجال البحري لمواكبة التسارع في برامج التحول التي تسير عليها دول المجلس بهدف التطوير الشامل لجميع القطاعات وتحويل الإنفاق على الخدمات إلى فرصة استثمارية، وتوطين مزيد من الصناعات وتنوعها، مشيراً إلى أن حجم الإنفاق الذي رصدته الإمارات خلال السنوات العشر الأخيرة قد بلغ ما يقرب من 122 مليار دولار تركزت في عمليات تطوير سلسلة من الجزر الطبيعية وأخرى اصطناعية، وبالتالي فلاغرو إذا ماقلنا أن إمارة دبي قد استثمرت لوحدها مامجموعه اكثر من 67.5 مليار دولار في الاقتصاد الازرق مع حلول نهاية العام 2017، وأن حوالي 30% من إجمالي دخل الامارة بنهاية العام 2018 كان له علاقة مباشرة بالبحر وفق إحصائية رسمية، وفي جارتها السعودية يجري تنفيذ مشروع خليج الدانة بمساحة 760 ألف متر مربع، والذي يشمل بناء قصور وفنادق بالاضافة إلى توسيع الاستثمارات في أنشطة النفط والغاز والبتروكيماويات والمعادن الثمينة، والسياحة البحرية والساحلية، في حين أن المغرب قد إعتمدت مخططاً لتنمية السياحة والذي يُعرف ب“ برنامج المخطط الأزرق 2020″والذي يهدف إلى إنشاء ستة منتجعات سياحية شاطئية تعتمد النظم الحديثة في تطوير السياحة البيئية، وكذلك برنامج تطوير سياحة الثقافة والتراث، وبرنامج تطوير سياحة الأعمال، وبرنامج تطوير السياحة الداخلية، وتقدر الكلفة الاستثمارية للخطة المغربية الجديدة بنحو 17.7 مليار دولار بهدف الوصول لرقم 20 مليون سائح سنوياً، وتهدف أيضاً لتحسين مرتبة المغرب ضمن الوجهات السياحية العالمية من المرتبة 27 حالياً إلى المرتبة 20 بحلول العام 2020.     ...يتبع
د. عبدالله ونيس الترهوني 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة