برهان هلّاك

أعلن البنك المركزي التونسي إحالة تقرير للمحكمة الابتدائية لاستصدار حكم بتصفية البنك الفرنسي التونسي، وأوضح المركزي التونسي في بيان أصدره يوم الإثنين 28 فيفري 2022 أن "القرار يأتي بعد معاينة لجنة إنقاذ البنوك لتوقف البنك الفرنسي التونسي عن الدفع وتعذر إنقاذه". البنك الفرنسي ـ التونسي هو أحد أقدم البنوك في تونس، وهو أول بنك تونسي يُعلنُ عن إفلاسه في تدلال على حجم الأزمة المالية التي تمر بها البلاد، بالإضافة إلى نزيف الفساد وتبديد المال العمومي التونسي المتواصل منذ عقود.

أربعة عقود مرت على إهمال الحسم في النزاع الدائر بين الدولة التونسية والشركة العربية للاستثمار ABCI ، الشريك الأساسي في البنك الفرنسي التونسي، لتتردّى الوضعيّة المالية للبنك مؤدية إلى الإخلال بتوازناته المالية. وقد حث ذلك البنك المركزي التونسي على تمرير ملف هذا البنك إلى القضاء ليتمّ حلّه وتصفيته بتاريخ 28 فيفري 2022. ورغم تكليف البنك المركزي للجنة إنقاذ البنوك صلبه بمعاينة توقف البنك الفرنسي التونسي عن الدفع، والتي عيّنت بدورها في نهاية سنة 2018 مفوّضا (متصرّفا بالنيابة) لإنقاذ البنك الذي يجابه مشاكل مالية منذ سنوات، إلا أن مشاكل البنك واختلالاته المالية والإجرائية كانت أسبق في إصابة توازناته المالية وانعدام قدرته على تطوير نشاطه. ويبرز ذلك كاستتباع مباشر للنزاع القائم منذ ما يقارب أربعة عقود بين أحد مساهميه الأوائل من جهة، والدولة التونسية من جهة ثانية.

و أما عن أهم أسباب تبديد المال العمومي بهذه الصّيغة، فإنّه يتلخص في عدم إيلاء أهمية لموضوع النزاع الذي احتدم بين الدولة التونسية والشركة العربية للاستثمار؛ يتمثل موضوع الخلاف في تصادم حول سحب الإجراءات القانونية لمساهمة الشركة في البنك الفرنسي التونسي سنة 1983. ليتحول هذا الخلاف على إثر ذلك إلى قضية مالية دولية تعدّدت فيها المسارات القضائية لتحول دون الحسم فيها حسب ما أوردته إذاعة "موزاييك إف إم" التونسية في تقريريها عن القصة الكاملة للبنك الفرنسي ـ التونسي. ويواصل التقرير بالإشارة إلى أن النزاع يتحدد أساسا في سحب الدولة التونسيّة ترخيص قانوني بتاريخ 30 ديسمبر 1982 كانت قد منحته في 23 أفريل من نفس السنة إلى الشركة العربية للاستثمار ABCI ، وهو نفس الترخيص الذي مكّن هذه الشركة في الأصل من المساهمة في رأسمال البنك الفرنسي التونسي بنسبة 50% (أي ما يعادل 20 مليون دولار). بيد أن الدولة التونسية قرّرت التراجع عن الترخيص بعد خلافات بين رئيس مجلس إدارة البنك الفرنسي التونسي، عبد المجيد بودن، والشركة التونسية للبنك. لتقرّر الشركة العربية للاستثمار ومِن ورائها مدير مجلس إدارتها عبد المجيد بودن التوجه إلى التحكيم الدولي (المركز الدولي للتحكيم في قضايا الاستثمار)، فيما قرّرت الدولة التونسية الاتجاه إلى القضاء التونسي من أجل البت في هذا النزاع.

ومن الأسباب الأخرى الكامنة وراء تبديد المال العمومي التونسي على هذه الشاكلة، نجد تقصيرا من قبل الحكومات المتعاقبة منذ أواخر الثمانينات؛ يقول الكاتب العام المساعد لنقابة أعوان البنك الفرنسي التونسي، عبودة حمّودة، أن كل الحكومات التونسية منذ سنة 1989 وصولا إلى حكومة الحبيب الصيد قد تسبّبت في إفلاس هذه المؤسسة البنكية. بل و يؤكد هذا النقابي على أن العاملين في البنك كانوا قد راسلوا الحكومات والبنك المركزي بهدف تقديم بعض الحلول، إلا أنهم لم يجدوا أيّ تفاعل أو إرادة سياسية لحل هذا الاشكال. وبغض النظر عما يشوب عهد حكومة يوسف الشاهد من شكوك في جدية تعاملها مع ما أسمته "حربا على الفساد"، فإنّ رئيس الحكومة آنذاك صرّح باعتباره ملف البنك الفرنسي التونسي أعظم قضية فساد في تاريخ تونس الحديثة.

كما أكدت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، في حوار بُثَّ على قناة التاسعة التونسية في فيفري من سنة 2021 على أن جلّ حكومات ما بعد الثورة كانت متواطئة بدرجات مختلفة في ملف البنك الفرنسي التونسي، في ما عدا حكومة إلياس الفخفاخ، التي قالت بن سدرين أنّها  حاولت إيقاف هذا النزيف والهدر الماليين. ولكن تصريحات هيئة الحقيقة والكرامة بهذا الخصوص هي جزء من سجالات الكلام المنقوصة من فعل الإنقاذ؛ أعلن رئيس لجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد في البرلمان في تلك الفترة (بدر الدين القمودي) بأنّ اللجنة التي يترأسها قد أثبتت وجود فبركة و تضارب في الوثائق التي تم نشرها من طرف هيئة الحقيقة و الكرامة في مسألة البنك الفرنسي التونسي.

ويقول الصحفي خليل عماري في تقريره الذي نشرته إذاعة "موزاييك إف إم" أن من بين الأسباب التي جعلت من قضية البنك الفرنسي التونسي معقدة هو حجم ملفات الفساد التي تعلّقت به على امتداد عقود، إذ أن منها ما يخصّ إسداء قروض وتمويلات بمبالغ تجاوزت 300 مليون دولار من دون أيّ ضمانات تُذكرُ. بالإضافة إلى اتهامات عديدة بمحاولة بعض الأطراف الاستيلاء على أموال المؤسسة العربية للاستثمار. وممّا يزيد الطين بلّة في هذه القضية شبهات الفساد التي تحوم حول توكيل الدولة التونسية لمكتب المحاماة الإنجليزي "هربرت سميث Herbert Smith "، خاصّة و أنّ المكتب المذكور سابقا كان قد تقاضى مبالغ طائلة قبل أن تخسر تونس القضية؛ لقد ذكرت هيئة الرقابة العامة لأملاك الدولة أنّ مصاريف النزاعات المبذولة من قبل الدولة التونسية في هذا الملف منذ ديسمبر 2008 الى غاية أكتوبر 2010 قد بلغت 2.639.562 دينار. وتتمثل هذه المصاريف بالأساس في أتعاب مكتب المحاماة "هربرت سميث Herbert Smith" و دفعات مسبقة لفائدة الهيئة التحكيميّة )المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (CIRDI، ناهيك عن مصاريف تنقل وإقامة ممثلي الدولة. كما خلصت الهيئة إلى وجود تجاوزات تعلقت أهمّها باحتساب أجر في الساعة أعلى من الأجر المتّفق عليه لبعض المحامين، وعدم تطابق المبلغ الجملي لإحدى الفواتير التي تعود لشهر أفريل من سنة 2011. وسُجِّلَتْ العديد من الخروقات الأخرى، لعلّ أبرزها تعدّد اللجان المتوازية مع لجنة النزاعات المتابعة للملف، الأمر الذي شتت الجهود وأدى إلى استحالة اتّخاذ التدابير المناسبة

ويبقى "إهداء" الدولة التونسية، أو إحدى وزاراتها على الأقل، الخصوم في قضية البنك الفرنسي التونسي فوزا سهلا إحدى أهم مقومات الفشل الذريع في صون المال العمومي التونسي؛ لقد عقدت وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية التونسية سنة 2012 اتفاق صلحٍ مع المجموعة العربية الدولية للأعمال تضمنت تنازلات كبيرة جدّا لصالح هذه المجموعة. ويساهم ذلك في الخسارة التي مُنِيَ بها الجانب التونسي في القضية إذا ما اقترن بتقرير هيئة الحقيقة والكرامة الذي خلصت فيه إلى أنّ الشركة العربية للاستثمار ABCI(خصم الدولة التونسية في قضية الحال) هي ضحيّة، وذلك حسب ما أكّده رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام بالبرلمان المجمّد، بدر الدين القمودي.

قال الكاتب العام للجامعة العامة للبنوك والمؤسسات المالية، نعمان الغربي، في تصريح لإذاعة "موزاييك إف إم" أن إغلاق البنك الفرنسي التونسي ستكون له تداعيات سلبية على صورة تونس باعتبار أنه أوّل بنك يفلس في تاريخ المنظومة المالية بالبلاد. وبالفعل، ستكون الدولة مجبرة على دفع تعويضات بمبالغ طائلة نتيجة للإهمال والفساد المستشري الآن وقد خسرت القضية أمام هيئة التحكيم الدولية المختصة.