الأربعاء 17 فبراير من عام 2011، هي بالنسبة لي ولملايين الليبيين، ذكرى ترتبط بأكبر كارثة عدوانية تشهر على شعب، ودولة، إنها ذكرى ما يسمى "ثورة 17 فبراير" حسب المصطلح الذي روج له داعموها ومروجوها وممولوها! للأسف المأسوف عليه، أنّ هذه "الثورة" قوضت نحو اثنين وأربعين عاماً من حكم العقيد معمر القذافي، وشهدت فصولها الأخيرة بشكل خاص، مأساة حقيقية على صعيد انتهاك المعايير الدولية والإنسانية والأخلاقية والمواثيق الخاصة بحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية. والثابت بشأن الصراع في ليبيا، أنه ما كان لينتهي بهذا الشكل لولا التدخل العسكري المباشر والواسع لقوات حلف شمال الأطلسي "الناتو" بكثافة، وكذلك مشاركة دول من خارج هذا الحلف، وبخاصة العربية، لحساب طرف ضد آخر في الصراع، وبشكل مخالف للقوانين الدولية. وقد أسفر هذا التدخل عن مقتل عشرات آلاف الليبيين، كما خلف دمارا هائلا، لكن الأخطر هو ما كرسه من حال انقسام وفوضى وانتشار للسلاح واصطفاف عشائري وقبلي في المجتمع الليبي، لم يكن ظاهراً بهذا الشكل إبان حكم العقيد القذافي.

احتاج الأمر للأسف لوقت طويل، ودماء غزيرة كي يفهم كثيرون أن ما يجري في ليبيا منذ عام 2011 هي حرب، أو بالأصح عدوان موصوف لكن بأدوات غير تقليدية بمعنى أنه عدوان بأدوات: الإرهاب المتعدد الجنسيات، والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والحرب الدبلوماسية والحرب الاستخبارية، والمنظمات غير الحكومية، والكثير من الأدوات التي طبقت في ليبيا وشكلت درساً، لا بل دروساً للعالم أجمع، وللكثير من الدول التي اجتاحتها مخططات قلب الأنظمة، وتغييرها للوصول إلى أهداف جيوسياسية ترتبط بمنظومة الهيمنة الغربية. وقد يسأل مراقب للأحداث في ليبيا منذ انطلاق الحراك المشؤوم تحت مسمى "الربيع العربي" عن كيفية تمرير الخديعة الكبرى التي سوقها الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والمتمثلة (بنشر الديمقراطية) في هذا البلد والهجوم غير المسبوق على نظامه السياسي الذي كان قائماً وإلصاق تهمه (الديكتاتورية والقمع) به وما إلى ذلك من تهم باطلة بهدف تسويغ ضرب هذا البلد والسيطرة عليه واقتسام خيراته وثرواته وإشعال نار التناحر والفرقة بين مكونات شعبه، وقد يسأل أيضاً أين أصبحت ليبيا من كذبة الديمقراطية!
 
اليوم في ذكرى ما يسمى "ثورة 17 فبراير" نقول إن ما تكشف عن البدايات كان كثيراً، وما بقي خافياً بالتأكيد هو كثير أيضاً، إلا أن الأول كاف للجزم بأننا كنا في مواجهة حرب كبرى، ولم نكن في مواجهة ثورة، والفرق بين الحالين كبير، فالحرب تقوم بالإلزام والقسر، على حين الثورة ما من ملزم لقيامها سوى نضج ظروفها وضغوط موجباتها التي غالباً ما تكون بفعل وجود عوامل معيقه أمام مسيرة الحياة، وفي هذا السياق من المفيد القول، طالما أن الحديث هو بمعايير وسنن التطور، أن الحكم على أي نظام بالمقياس التاريخي لا يتم من حيث مقاربته لقيم مطلقة مثل الحق والعدالة والحريات… وإنما تتم من حيث إنه قدم، أم لم يقدم، منهجاً معرفياً كان قادراً في ظرفي الزمان والمكان اللذان وجد فيهما، على النهوض بمجتمعه الذي يقوده صعوداً على سلم التطور الاجتماعي.

الثابت لدينا، أنّ ليبيا دخلت عامها العاشر وهي غير مستقرة، ومع ذلك ما يزال بعض المتفلسفين علينا يخرجون على الشاشات، ويطلقون البيانات السياسية، أو التصريحات، أو التغريدات بالقول: لو أن الدولة الليبية لم يكن لديها مقاربة أمنية، وعسكرية لما وصلنا إلى هنا، ولو أننا عملنا على الحل السياسي لما وصلنا إلى هنا، ولو أننا تحدثنا مع ما يسمى (المعارضة) لما حدث- ما حدث! لكن الأدلة، والوقائع، والتصريحات، والمعلومات تتكاثر كل يوم لتصفع هؤلاء على وجوههم، وتكذبهم، وتقول لهم أن الحرب على ليبيا، ليست من أجل ديمقراطية مزعومة، أو حرية مفقودة، أو حقوق إنسان، أو ثورة مأفونة، إنما من أجل تقسيم البلاد، ورهن ليبيا للغرب والأغراب. في بداية الأحداث في ليبيا، تلطى كثيرون خلف شعارات براقة، وأطلقوا أصواتهم، وصرخوا كثيراً على الفضائيات النفطية والغازية، حول شكل النظام السياسي في ليبيا، وآفاقه، والمرحلة الانتقالية، بالرغم من أن أياً منهم لم يصف لنا المرحلة الانتقالية، وهو يُنظر علينا من فضائية الجزيرة الديمقراطية جداً، كما أن أياً منهم لم يشرح لنا كيف تتم العملية الانتقالية... وبأي طريقة ديمقراطية جداً... كما أن بعض اليساريين الذين انتقلوا من حضن كارل ماركس إلى حضن الأخوان، لم يوضحوا لنا مثلاً كيف تحولوا بين ليلة وضحاها إلى (أنا الدولة، والدولة أنا) وبأي عملية انتقال ديمقراطية !..
 
البعض يخلط عن قصد بين حقائق داخلية بحاجة إلى إصلاح، وتطوير وتغيير، وإن شئتم تبديلاً جذرياً في التعاطي، والمقاربة، وبين أهداف غربية ـ إخوانية - عثمانية لا علاقة لها إطلاقاً بذلك بل تستغلها لتحقيق أهداف أخرى ترتبط بمشاريع تقسيم المنطقة، وتفتيتها، وإضعافها، وقتل النور، والحضارة، والمعرفة، وإحلال التخلف، والتبعية، والأخوانية بقذارتها في كل مكان- وإلا فبماذا يبرر لنا (الثوار الفطاحل) أن من يحمل السلاح منذ بداية الحرب هم أنواع، وأشكال مختلفة، لكن المهيمن عليهم هو المال، والقبلية، والجهل، وأما صاحب اليد العليا على كل هؤلاء فهي تنظيمات القاعدة، وداعش المرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع أجندات التقسيم، ومع الأخوانية الابن الشرعي للصهيونية.

الآن، ونحن ندخل العام العاشر، من هذا العدوان المتعدد الوجوه والأشكال، نطرح على أنفسنا أسئلة جوهرية لأخذ العبر والدروس المستخلصة، وللوصول إلى خلاصات لابد منها، ودعوني أتحدث عن بعضها لتثبيت قناعات سنوات مضت، ومنها:

أولاً: انكشاف أهداف "الثورة المزعومة" التي يجب أن نسميها عدواناً وليست حراكاً سلمياً، إنما عدوان ممول. 

ثانياً: إنه عدوان قادته فرنسا وقوى الاستعمار التقليدي، بأدوات إخوانية ورجعية عربية ومحلية.

ثالثاً: انفضاح الدور القذر لأجهزة الاستخبارات الغربية والتركية والقطرية... في تأسيس، وتركيب، وتحريك واستخدام الجماعات الإرهابية المتأسلمة مثل داعش وجبهة النصرة، وأخواتها بمختلف تسمياتهم.

رابعاً: إن الحرية المزعومة لدى أولئك الثورجيين ظهر أنها حرية بيع الأوطان لقوى الهيمنة العالمية، وتحويل ليبيا إلى ألعوبة، وإعادتها إلى نموذج الخمسينيات والستينيات، حيث الانقلابات العسكرية، وأجهزة الاستخبارات الغربية وأموال النفط، ومصالح الشركات.

خامساً: كيف يمكن لـ"ثورة شعبية" مزعومة ذات شعارات براقة، أن تتلقى دعماً من أمريكا، بريطانيا، فرنسا، إسرائيل، قطر، تركيا وغيرهم الكثير، ليطرح السؤال: ما الذي يجمع كل هؤلاء دستورياً، وديمقراطياً، وأنظمة سياسية وقوميات وأدياناً، شيء غريب عجيب!

سادساً: إن العدوان على ليبيا باسم "ثورة" مزعومة لم يكن إلا وسيلة لإنتاج نظام سياسي موال للغرب... ومنبطح أمام تركيا وقطر... وفاقد لعناصر السيادة والاستقلال.

سابعاً: إن التدمير الممنهج الذي نُفذ في ليبيا، كان مخططاً ومبرمجاً ومقصوداً بهدف إركاع الشعب الليبي، ودفعه للاستسلام، وجعل أسس الحياة مستحيلة، كما كان وما زال يعمل الأعداء والخصوم، وهناك من الأدلة والأرقام ما يجعل أي مراقب موضوعي يقف مذهولاً لحجم الحقد على ليبيا وشعبها.

ثامناً: العدوان على ليبيا، لم يكن بهدف شخصي كما ادعى منفذوه، أي استهداف شخص العقيد الراحل معمر القذافي، وإنما الهدف هو ليبيا بكاملها قيادة وشعباً وتاريخاً وهوية وتراثاً، وفي النهاية دوراً إقليمياً ووزناً تاريخياً نوعياً تحمله هذه الأرض.

تاسعاً: لقد كشف العدوان على ليبيا، أي "الثورة" المزعومة، أن الإعلام الغربي منافق وكذاب، وأنه مجرد أداة قذرة من أدوات العدوان، وأن ما كان في "لا وعي" كثير من النُخب والمواطنين لابد من شطبه، وبخاصة أن هذه المؤسسات الإعلامية الغربية تعترف اليوم بشكل غير مباشر بسفالتها، وتطرد أشهر إعلامييها لأنهم زوروا أحداثاً، ومقابلات، أي بمعنى أنه لا حرية إعلامية في العالم، كما كان يروج، إنما هناك حرفية ومهنية في التذاكي، والاستغباء وتمرير الأجندات الخفية.

عاشراً: تبين أن هذه الأنظمة الغربية التي تطالب بالحرية والديمقراطية للآخرين، مستعدة للقمع والقتل وإنزال المصفحات والقناصة، عندما يتعلق الأمر بأمنها القومي، وتوجهاتها السياسية والاقتصادية، وهنا لدينا نموذج السترات الصفراء في فرنسا، وأحداث بريطانيا وهولندا...

اليوم وبعد عشر سنوات، تبدو الأوضاع أبعد ما تكون عن الاستقرار برغم تصريحات الحكام الجدد الكثيرة في هذا المجال، ورغم المساعدة الكبيرة التي قدمتها الأمم المتحدة ودول كبرى وصغيرة لهؤلاء الحكام، لغايات مصلحية، اقتصادية ومالية (النفط والغاز والمال) وسياسية وأيضاً شخصية ربما. واليوم يرى الليبيون أن الحرية التي قتل عشرات الآلاف من أبنائهم تحت شعارها، لم تكن سوى الانقسام والفوضى وانتشار السلاح بين أيدي كل من هب ودب، وتردي الأوضاع المعيشية، والتدخل الخارجي السافر بكل صغيرة وكبيرة بالشأن الداخلي، وأحيانا المغرقة بالمحلية والقبلية... 

يقول الليبيون اليوم: إن الحرية ليست ذلك الشيء المقدس أو السحري الذي يجب أن نتنازل في سبيله عن الأمن والأمان والاستقرار والسيادة ووحدة البلاد... فهل على هذه الحرية أن تكون نقيضاً لكل ذلك؟ هل يستطيع الشعب الليبي أن يتجاوز هذا القطوع التاريخي في مسيرته ويحافظ على وحدة البلاد بالدرجة الأولى، وكذلك أن يعيد الأمن والاستقرار اللذين لا شك أنهما كانا ثابتين في عهد القذافي؟
 
خلاصة الكلام: إن مستقبل ليبيا اليوم، وعلى المدى المنظور مرهون بالاحتكام لمصالح ليبيا قبل كل شيء آخر، وما عدا ذلك فإن الصراع القائم حالياً سيستمر... فهل يعتبر الليبيون ويتوقف زعماء الحكومة الانتقالية الليبية الجديدة، عن الاتكاء على الخارج مثل تركيا وأمريكا والكثير من الدول الأوروبية التي لا تريد لليبيا خيراً ولا استقراراً ولا أمناً وازدهاراً...؟ 

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة