مصطفى حفيظ

إنّ ما يحدث في الجزائر منذ أسبوع مروّع حقا، فالحرائق أتت على الأخضر واليابس في أكثر من مكان، 17 محافظة معظمها في الشمال الشرقي من البلاد، وأكثرها تضررها في منطقة القبائل شرق العاصمة، فجأة تحول كل شيء إلى رماد، سقطت أرواح أكثر من 60 جزائريا، بين ضحايا مدنيين وعسكريين، أبرز ضحية كان شابا جاء من محافظة أخرى ليتضامن مع سكان المنطقة، قتل بطريقة بشعة لم نشهدها من قبل إلا عند داعش عندما أعدمت الطيّار الأردني معاذ الكساسبة حرقا وتم تصوير ذلك وبثّ عبر الأنترنت وشاهده كل العالم، والجريمة التي وقعت في الأربعاء ناث اراثن بالقبائل الأربعاء الماضي، ومهما كان مرتكبوها، فقد كانت عنفا رمزيا أكثر منه تعبيرا عن حالة غضب وتنفيذ حكم اعدام حرقا في حق شخص مشبوه لم يثبت تورطه في اشعال الحرائق، إذن، ومهما قيل عن هذه الحادثة: من المتسبب في هذه الحرائق كلها التي أتت على الأرواح والحيوانات والحزام النباتي الكثيف في هذه المنطقة؟ من هو؟ ومن هي الجهة التي وراءه؟ وهل تفوح من ذلك رائحة مؤامرة على الجزائر؟ من يريد زرع الفتنة بين الجزائريين؟ لماذا النيران في منطقة القبائل أكثر من غيرها؟ هل بسبب "أطروحة استقلال القبائل" التي تروّج لها "الماك"؟

قبل أيام من اندلاع النيران في غابات وأحراش أكثر من محافظة في الجزائر، خاصة في شرق البلاد ومنطقة القبائل بالتحديد، بأكثر من 40 حريقا في تيزي وزو وحدها، تحدث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون في لقاءه الدوري مع ممثلي الصحافة الجزائرية، وبثّ اللقاء عبر التلفزيون الرسمي يوم الاثنين، وهو نفس اليوم الذي اندلعت فيه أولى الحرائق في تيزي وزو، ثم يوم الثلاثاء انتشرت في بقية المحافظات، إذاً، ما سرّ هذا التوقيت؟ لماذا هذا التزامن بين تصريح تبّون بشأن اتخاذ الدولة لقرارات هامة تخصّ حماية الغابات وبين اندلاع الحرائق بعدها مباشرة؟

 لا يبدو أن الأمر حدث مصادفة، فأي جزائري يتساءل: هل اندلعت النيران طبيعيا لأننا في عزّ الصيف حيث يمكن لقارورة زجاجية أن تنفجر من شدّة الحرارة؟ أو بفعل سلوك طائش لمدخّن؟ أم أنه فعل اجرامي مثلما رجّحت الحكومة بذلك؟ الأكيد بحسب المعطيات، هو أنّ الأمر أقرب إلى الفعل الإجرامي منه إلى الحادث العرضي، لكن إن كان الفاعل فعل فعلته عمدا، من هو، أو من هم؟ كم عددهم؟ هل ينتمون لجناح معيّن مثلا (فلول العصابة التي حكمت الجزائر في آخر عهدة للرئيس الأسبق بوتفليقة)، ومعروف أن هناك من يحاول استغلال الأوضاع التي تعيشها الجزائر لإثارة الفتنة بين الجزائريين.

 لكن والأهم من كل ذلك، لماذا أشعلت المنطقة الأكثر حساسية في الجزائر؟ 

 تعدّ منطقة القبائل مسألة حساسة بالنسبة للسلطة في الجزائر، حتى أنّها الآن ومنذ شهر تقريبا أضحت مسألة جوهرية في أجندة الحكومة والنظام الجزائري، وسبب ذلك هو استعمالها من طرف النظام المغربي كورقة ضغط يزعج بها الجزائر في النزاع الصحراوي الذي يدور بين المغرب وجبهة البوليساريو ومسجل لدى الأمم المتحدة التي تبحث له عن حل منذ وقف إطلاق النار بين الطرفين في سنة 1991 (ثم إنهاء الجبهة التزامها باتفاق وقف إطلاق النار وإعلانها أن الحرب "بدأت مع المغرب" نهاية سنة 2020). 

والآن ونحن نشاهد النيران وهي تأتي على الأخضر واليابس في غابات تيزي وزو وولايات أخرى، والضحايا الذين سقطوا سواء في صفوف الجيش الجزائري الذي هبّ لإنقاذ الأرواح أو المدنيين من سكان المنطقة أو المتطوعين (أكثر من 60 ضحية منهم 28 جنديا استشهدوا وهم يحاولون انقاذ الناس في المنطقة)، ينتابنا الشكّ في أنّ هذه النيران حدثت لسبب أو لأسباب عرضية طبيعية، بل إنّ الاحتمال الأكثر قربا للتصديق هو أنّ النار سببها البشر، أي أن جهة معينة تجهل هويّتها حتى الآن، هي من أشعلت كل هذه الحرائق، لأنّه من غير المعقول أن يتزامن اندلاعها في 17 ولاية جزائرية، أغلبها في وسط وشرق البلاد.

اندلعت النيران في هذه الولايات: تيزي وزو، الطارف، بجاية، جيجل، سكيكدة، عنابة، بومرداس، البليدة، المدية، قالمة، سوق اهراس، خنشلة، عين الدفلى، أم البواقي، سطيف، تبسة، وأكثر الحرائق سجّلت في ولاية تيزي وزو بأكثر من 40 حريق، ومجمل الحرائق المسجلة منذ التاسع من الشهر الجاري أغسطس/أوت فاقت مائة حريق أغلبها في منطقة القبائل خلّفت ضحايا مدنيين من ولاية تيزي إلى جانب العسكريين الذين تدخلوا لنجدة العائلات هناك أثناء تواجدهم بمفرزات للجيش قريبة من الغابات التي احترقت. 

حسب تصريحات الوزير الأول الجزائري، فإنّ الحرائق مفتعلة وفقا للأدلة التي تمتلكها الحكومة، وقال إنّ اشعالها كان بفعل فاعل وبأيادي اجرامية وفي مناطق محدّدة ومدروسة، وتم اثبات ذلك بإمكانيات تكنولوجية علمية، هذا التأكيد من جانب الحكومة يثبت أنّ جهة معيّنة كانت تصبّ الزيت على النار لتلهب المنطقة وتلهب معها غضب السكان الأمازيغ هناك، تكون غايته هو خلق مزيد من الحنق والحقد في قلوب الناس المتضررين من جهة، وتأجيج نار الفتنة من جهة أخرى، لأن الهبّة التضامنية الكبيرة التي سجلت كانت دليلا على قوّة تآزر وتلاحم الشعب الجزائري عند الشدائد.

لكن على ما يبدو، فتحت الجريمة البشعة التي راح ضحيتها شاب من مدينة مليانة بمحافظة عين الدفلى غرب العاصمة، باب الفتنة على مصراعيه، بحيث تزامنت الحادثة مع توافد سكان عدة محافظات بالشاحنات والحافلات والسيارات المحملة بالمساعدات والتبرّعات لسكان المناطق المتضررة بتيزي وزو، وسط تلك الحشود، يشتبه في أحد الشباب، يتعرض للضرب، تمسكه الشرطة أو تنقذه، اختلفت الروايات، المهم أنّ سيارة الشرطة وسط الحشود، حشود غاضبة، بينهم شباب يعتدي على السيارة، يضرب الضحية، يسحبه إلى ساحة المدينة، يلفظ أنفاسه حتى قبل الحرق، ثم تحرق جثّته، ثم ينكّل به، ثم يتم تصويره عبر الفيديو والصوّر والمجرمون الذين كانوا يركلون جثّته، صوّروا انفسهم مع الجثّة المتفحّمة، وأحدهم يمسك سكينا ويذبح رقبة الضحية في جثّته المتفحمة، مشهد مرعب وسط حشد من الناس كانوا يتفرّجون ولم يحرّك أحد ساكنا في تلك اللحظة، أين كانت الدولة؟ أين كانت الشرطة؟ تساؤلات ظلّت تطرح. من هم مرتكبو هذه الجريمة البشعة والتي نفّذت بطريقة وحشية تشبه طريقة داعش الإرهابية عندما أعدمت ذلك الطيّار الأردني منذ سنوات حرقا وصوّرته وشاهده العالم عبر شاشات الفضائيات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي عبر الانترنت.

هل هي "الماك" التي تثير الفتنة خدمة لأطروحتها لما يعرف بـ "استقلال القبائل"؟ 

أسئلة كثيرة تطرح نفسها في الوقت الراهن، من يحرّك خيوط اللعبة؟ وهل هي فتنة لتفريق الجزائريين في لحظة تلاحم؟ هل بسبب فشل الحراك؟ هل هي "حركة استقلال منطقة القبائل" المعروفة اختصارا بـ "الماك" والتي تتخذ من فرنسا مقرّا لها؟ وتقوم بذلك بعد أن خسرت معركة الحراك رفقة حركة رشاد ذات التوجّه الاصولي، وبعد أن صنفتهما الجزائر كحركتين ارهابيتين، ربّما تقومان معا، أو إحداهما، والأرجح هي الماك لعلاقتها بمنطقة القبائل، بهذه الجريمة في حق الغابات والأرواح والحيوانات، هدفها تهجير السكان، خلق ذلك الغضب والحنق لديهم لحملهم على الايمان بمشروع "الاستقلال"، هذا مجرد احتمال طبعا، لكنه أقرب إلى التصديق إن عدنا إلى التحركات التي تقوم بها الحركة منذ العامين الأخيرين (2019 و2020)، وهما السنتين اللتين شهدتا انطلاقة الحراك الشعبي منذ 2019 حتى توقّفه مؤخرا، يمكن القول إنّ السلطة السياسية في الجزائر تمكنت من افشاله، وحيّدته بسبب ما قيل وقتها إنّه تعرّض لاختراق حركات أصولية (رشاد) وانفصالية (الماك)، وهما حركتان معارضتين، الأولى تريد قلب النظام والتمكين لعودة الحزب الإسلامي المحظور المعروف اختصارا (بالفيس، أو الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، وقد فشلت بشكل ما في تعبئة الجماهير بعد اتضاح مشروعها الذي لا يخدم مطامح الشعب الذي خرج ضد ما اسماه عصابة نظام الحكم في عهدة بوتفليقة، والثانية تريد الانفصال، وهو مشروع قديم يقوده المطرب الأمازيغي المقيم بفرنسا فرحات مهني، والذي يدير من هناك مشروعه عبر الانترنت وعبر عناصر تكون مندسّة وسط الحراك، أو حاليا وسط الغاضبين من الحرائق في تيزي وزو، أو ربّما هم من أشعلوها خدمة لأهداف هذه الحركة، لا أحد يملك الحقيقة الآن، لكن الشكوك تحوم حول هذا الطرح.

ومهما يكن، كشفت هذه الحرائق مدى غياب النظرة الاستراتيجية للحكومة الجزائرية في مكافحة الحرائق، فكانت حرائق خنشلة كافية لكي تجعلها تفكر في شراء أو كراء مروحيات وطائرات متخصصة في إطفاء الحرائق، ولا نعرف لماذا برغم البحبوحة المالية التي عرفتها الجزائر في السنوات الماضية، لم تفكر الحكومات المتعاقبة في ذلك برغم تسجيل الحرائق سنويا في فصل الصيف، والآن، بعد أن كادت تتسبب هذه الحرائق في فتنة عظيمة بعد قتل ذلك الشاب الفنان حرقا في تيزي وزو، كلّف الرئيس الجزائري الجيش لشراء طائرات إطفاء الحرائق وأمره بأن يبدأ اتصالاته بشركات في الخارج تنتج هذا النوع من الطائرات، وكشفت الأزمة من جانب آخر، حجم التضامن بين الجزائريين في ظروف كهذه، وأظهرت فيديوهات عبر اليوتيوب قوافل تضامنية من كل الولايات محمّلة بالمواد الغذائية والمياه للسكان المتضررين في القرى والمدن التي شهدت الحرائق واضطرت إلى الفرار من مساكنها، وعكس ما يروجه البعض من مثيري الفتنة عبر مواقع التواصل الاجتماعي أهمها فيسبوك ويوتيوب، يحاول البعض نشر صور وفيديوهات معاكسة، تؤكد غياب أي فتنة أو محاولات للخروج في مسيرات انتقامية مثلا، بسبب الجريمة البشعة السالفة الذكر، ومع ذلك فإن براثن الفتنة لا تزال تتربص بالجزائريين، خاصة فكرة قبائلي (أمازيغي) وعربي. فهل سيتجاوز الجزائريون ذلك؟