برهان هلّاك

شهدت تونس سنة 2011 أسابيع من الاحتجاجات الشعبية العارمة التي استُهلّت بإحراق الشاب محمد البوعزيزي نفسه احتجاجا على استهداف مصدر رزقه (مصادرة عربة متجولة يبيع من خلالها خضر و غلال  من قبل الشرطة البلدية في محافظة سيدي بوزيد التونسية). و قد كانت هذه الأسابيع كافية لإنهاء حكم الرئيس المطاحِ به زين العابدين بن علي والذي دام 23 سنة، و هو ما اضطرّه لمغادرة البلاد تاركا إياها في حالة من الغليان والفوضى. و قد بدأت هذه الاحتجاجات الشعبية في محافظة سيدي بوزيد على بعد 265 كم جنوب تونس العاصمة في 17 ديسمبر 2010، وانتشرت بكافة مدن المحافظة المذكورة و امتدت بعد ذلك على كامل محافظات الجمهورية التونسية

و لئن تختلف الآراء حول بداية فترة الانتقال الديمقراطي التي يقرّ البعض تاريخ 17 ديسمبر 2010، تاريخ انطلاق الثورة التونسية، بداية لها، فإن شقّا أخر يعتبر أن 14 جانفي 2011 هو نقطة بداية مرحلة الانتقال الديمقراطي مستندا في ذلك إلى أن  رأس النظام قد تمت الإطاحة به في ذلك اليوم وأنّ الديمقراطية لم تبدأ قبل سقوط الرئيس. و تتفق هذه الآراء المتضاربة على أن التاريخين المذكورين يعتبران نقطتي بداية ونهاية الثورة، أو الانتفاضة، التونسية.

و بغض النظر عن هذه التفصيلات التقنية زمنيا، فإن الرؤى التي حكمت مباشرة هذه الانتفاضة واقعيا قد استندت إلى منظومات فكرية مختلفة حد التباين و التناقض إلى يومنا هذا؛ إن أحداث 25 جويلية 2021 الفارط، و التي جمد فيها الرئيس التونسي قيس سعيد أعمال البرلمان التونسي و أقال خلالها الحكومة، قد اعتبرها الإسلاميون مثلا إجهازا على ما أتت و بشرت و أحلمت به الثورة نفوس التونسيين و تطلعاتهم الديمقراطية. في ما اعتبرها قيس سعيد، و أنصاره من وراءه، تصحيحا لمسار ديمقراطية شكلية متعثرة لم تأت أكلها الاجتماعي و الاقتصادي لجموع التونسيين، و اقتصرت "منافعها" على المؤلفة قلوبهم و من عملوا على تقويض حداثة مفترضة للدولة في إطار مشروع التمكين الإسلاموي.

و في إطار ذلك، عاشت البلاد عقدا بأكمله  على وقع مراوغات الإسلاميين حيث الإمساك بتلابيب اللعبة السياسية في سياق دقيق، بالإضافة إلى الحرص على تذريه أي شرط إمكان لتأسيس ديمقراطي سليم و متين عوضا عمّا كرّسوه من ديمقراطية شكلية و مؤسسات شرعية مهزوزة و في خدمة أهداف "الجماعة". لقد كانت هذه السنوات الإحدى عشرة الماضية سنوات من الفوات الديمقراطي إن صحّ القول، فقد أهدرت الطبقة السياسية على البلاد فرصة واعدة في التأسيس السياسي و الاقتصادي ـ الاجتماعي لديمقراطية تونسية كانت لتكون منارة أمل في كامل العالم العربي بجناحيه الآسيوي و الإفريقي.

و كمثال لاستغراقنا في الطفولية السياسية، فقد برهن زعيم حركة النهضة " راشد الغنّوشي " في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية لسنة 2014، و الذي جمع بين الرئيس المنصف المرزوقي آنذاك و بين الراحل الباجي قائد السبسي، عن مكر سياسي ضيق الأفق عند اعتماده ثنائية التّرغيب و التّرهيب في مقاربته لمسألة مساندة أحد المترشّحين لهذا الدّور الثّاني؛ ما انفك راشد الغنوشي، و من وراءه قيادات الحركة، يكرّر أن إدارة التّعدد (على مستوى رأسي السلطة التنفيذية) صعب. وهو بذلك يرهّب القواعد و المناصرين و  الشعب من مغبّة انتخاب " المنصف المرزوقي " الذي سيحدث نوعا من العرقلة على مستوى أداء مؤسسة رئاسة الجمهورية نظرا لتوتّر العلاقة و انسداد أفق التواصل بين هذا الأخير و حكومة سيشكّلها حزب نداء تونس (حزب الراحل الباجي قائد السبسي الذي كسب الانتخابات التشريعية سنة 2014). ثمّ عاد بعد ذلك ليستدرك بالقول بأن التوافق خدمة لمصلحة تونس ليس أمرا مستحيلا، و مؤكدا بذلك على معنى حياد الحركة التي لم يكن لديها مرشح رئاسي في ذلك الوقت. كما كان يشير لقابلية كلا الطّرحين و هو يخطب ودّ مناصري المنصف المرزوقي ليحافظ بذلك على قدر من الاستقرار في قيادة النهضة التي شهدت في تلك الفترة صراعات كبرى ( ولعلّ تصريحات قيادات تاريخية كالحبيب اللّوز و الصادق شورو و استقالة حمّادي الجبالي في ذلك السياق خير مؤشّر).

ثمّ ليعود الشيخ راشد الغنوشي في لحظة ثانية إلى ترغيب القواعد في التصويت للمترشّح الباجي قائد السبسي بتأكيده أنّ عودة دولة القمع البوليسي و الاستبداد مستحيلة، و أنّ هذه المخاوف داخلة في إطار تجاذبات إنتخابية، معتبرا ضمنيّا أنّها بروباغاندا موظّفة من قبل حملة المنصف المرزوقي. وهو موقف رام من خلاله المراهنة على تحقيق التّناغم بين مقررّات القيادة التّي أبرمت الاتفاق مع حركة نداء تونس في سنة 2014 (و الذي تبيّناه من مجريات الأمور في مجلس النّواب و من قبل ذلك في عدم تمرير قانون العزل السّياسيّ لأزلام النظام السابق في عهد الرئيس المُطاح به بن علي).

و نستجلي من كل ما تقدّم التذكير به أن المسار الديمقراطي الحق في تونس قد تم إخماده في المهد و منذ الأيام الأولى لما بعد 14 جانفي 2011. بل لعل هذا التاريخ هو التاريخ الفعلي لإجهاض الثورة كما يظل يؤكد العديدون، و على رأسهم الرئيس الحالي للدولة التونسية، قيس سعيّد. و من هذا المنطلق فإنّ العديد من التّصريحات و التّصريحات المضادّة التي تُلقى جزافا منذ تاريخ إقرار التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021 لا تعكس إلاّ واقع الجمود و التّكلّس الذي انعكس سلبا على المجتمع التونسي باعتباره مجتمع ما بعد انتفاضة. إن الغوغائيّة تتجلّى في أدلوجات زاعمة بأنّ الديمقراطيّة كانت متجسّدة وأن ما يسميه الرئيس قيس سعيد و أنصاره مسارا تصحيحيا هو مجرد نكوص إلى الوراء يبشّر باحتضان ديكتاتوريّة ناشئة. في حين يقول الشق المقابل بأن الاستئناف الحقيقي للتأسيس الديمقراطي قد انطلق بعد كسر، يفترضونه، لحلقات هيمنة نظام الزبونية الإسلاموي المتحالف مع اللصوصية و الطفيلية الاقتصادية الإجرامية التي تنفّذت في فترة ما بعد 14 جانفي 2011.

ينتمي زمن الثّورات إلى الزّمن السّرديّ "، هذا ما صدح به الفيلسوف الفرنسي بول ريكور حينما اعتبر أنّ الشّعوب، لا الجماهير، حينما تثور فإنّما تسعى إلى سرد قصص العذابات في ضوء الشّمس و لهيب النّار فتمتزج الأوجاع بالأحلام والأوهام، فتتبدّى لنا الثّورة مسار مكابدة و مجاهدة بغية الاستئناف و الانطلاق في الزّمان و المكان. إلّا أنّ لحظة تكثيف السّرد تقتضي الخروج عن الزّمن البيروقراطيّ و الثّيوقراطيّ لإعادة بناء الإنسان و ذلك بهدف الإنجاز، و هذه إحدى أهم جوانب الإشكال في تونس؛ لقد وقعت فعاليّة الإنجاز في حالة عطالة تامّة فالتقى الزّمن الثّوري باللّامتوقّع و أصابته انتكاسة عطّلت ديمومته و سيطرته و سيادته. وبالتّالي فإنّ " سكّان الغرف السياسيّة الضيّقة " قد عمدوا إلى تغيير هيأتهم و المحافظة على سياساتهم إثر قراءة للهزّات السياسيٌة أفضت إلى اسكتناه حقيقة مفادها أنّ قيادة القطيع إلى اليوتوبيات و الأوهام يستلزم خطابات إحتواء و منطق وصاية جديد. لقد كان هؤلاء القادمون على عجل نحو إشباع فانتزمات التسلّط محكومين بتوجّهاتهم في فترة ما قبل سقوط الدّيكتاتور، و بعلاقاتهم المستحدثة و تفريعات انتماءاتهم في صراعات الجغرافيا السياسية الإقليمية المعقّدة و المتقلبة.

يعلّمنا المؤرخ و المنظّر السياسي الفرنسي ألكسيس دي توكفيل أنّ الديمقراطية تنتمي بالضرورة إلى مجالات المتغير و الخيال. وبذلك تكون أي ديمقراطية تونسية ضربا من ضروب السباحة ضد تيارات واقعنا الذي سمته الجمود و اللّاتغيّر و الأعطاب التي تلمّ بذاكرتنا و طموحاتنا.