مصطفى حفيظ

رأينا مؤخرا كيف ساهم الفيسبوك في اثارة فتنة بين الجزائريين على خلفية الحرائق التي مسّت منطقة القبائل ومناطق أخرى في الجزائر، ورأينا كيف تركت هذه الشركة الأمريكية العالمية موقعها يروّج لصور وفيديوهات تحمل مضامين عنف وعنصرية دون حجبها، ورأينا كيف دخل الجزائريون عقب ذلك في سجال وصل الى حدّ التراشق والاتهامات المتبادلة بالعنصرية بين (العرب والامازيغ) ويسترد لحد الساعة، لكن ساهمت السوشل ميديا بالمقابل في مساعدة الأمن على القبض على مرتكبي الجريمة البشعة والحرائق في منطقة القبائل، يجرّنا الموضوع لطرح التساؤلات التالية: هل ستتخذ الجزائر تدابير قانونية ضدّ شركة فيسبوك الأمريكية على خلفية تلك المضامين التي تمس وتهدد سيادتها ومصالحها وسمعتها مثلما أعلن وزير الاتصال الجزائري مؤخرا؟ وهل هي حرب الكترونية تستهدف فعلا استقرار البلاد واثارة الفتنة على إثر السجال الجزائري-المغربي، مثلا؟ وهل تملك الجزائر الإمكانيات التقنية لمواجهة هذه الحرب؟

عند الحديث عن مساوئ التكنولوجيا الرقمية عموما والسوشل ميديا خصوصا، نتذكر دوما ما قاله الروائي والفيلسوف الإيطالي امبرتو ايكو عن وسائل التواصل الاجتماعي: "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن يثرثرون في الحانات فقط، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل مَنْ يحملون جائزة نوبل. إنه غزو الحمقى." واليوم، ونحن أمام هذا التزايد في استخدام هذه الوسائل لحدّ التخمة، هل يا ترى كان إيكو على حقّ عندما تحدث عن حق فيالق من الحمقى في الكلام؟ الجواب هو نعم بالتأكيد، لأنّ اليوم يصعب معرفة من هو جمهور هذه السوشل ميديا التي صارت تقريبا في جيب كل شخص في أي بلد، لذلك يمكن لأي صانع محتوى عبر هذه المواقع أن يؤثر في الملايين ويتحكم في اتجاهات الرأي لدى جموع الناس، ومن صفات جمهور وسائل الاعلام الجماهيرية أنه جمهور سلبي ومجهول الهوية وغير تفاعلي؟ بمعنى يصعب التكهّن بحقيقة صدى المضامين الإعلامية عبر القنوات التي تنقل الرسائل الإعلامية، سواء أكانت تلفزيون، إذاعة أو صحافة مكتوبة، لكن الأمر مختلف اليوم مع جمهور وسائل التواصل الاجتماعي أو السوشل ميديا، فالمعطيات مختلفة، من هو القائم بالاتصال فيها، ومن هو المتلقي، وما هي مضامين الرسالة الإعلامية عبرها، لعل هذه الشروط هي التي جعلت الدول والحكومات في مواجهة عدو جديد يصعب التحكم فيه لدرجة يمكن لوسيلة تواصل اجتماعي أكثر انتشارا وتأثيرا كفيسبوك أن تقلب أنظمة وتسقطها، رأينا ما فعله هذا الموقع في 2010 و2011 عندما بدأت ما سمّي آنذاك "ثورات الربيع العربي: تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن ..."

لقد كان لفيسبوك بسلبيته وإيجابيته دورا في تحريك وتوجيه الجماهير وتغيير مواقفهم نحو جهة معيّنة، وطبعا يقول صنّاع هذا الموقع إنّه يسير وفقا لنظام من اللوغاريتمات التي تتحكم في انتشار المضامين، مع ذلك يمكنهم تغيير هذا النظام لو أرادوا ذلك، فلماذا مثلا-استنادا لما قاله وزير الاتصال الجزائري في احدى تصريحاته الإعلامية الأخيرة – لم تقم شركة فيسبوك بحجب صور وفيديوهات الجريمة البشعة التي راح ضحيتها الشاب جمال بن سماعيل في ولاية تيزي وزو، حيث عوضا عن حذفها لدرجة تأثيرها السلبي على المتلقين من مستخدمي الموقع، أبقت على كل الصور والفيديوهات التي أرّخت للجريمة منذ وقوعها حتى آخر فيديو تم بثّه أو آخر صورة نشرت، يبدو أن الموقع تورط، بشكل ما، خدمة لجهة ما ربما، في الابقاء على تلك المضامين البشعة، ولعل تأثير ذلك كان واضحا بالنّظر لحجم الصفحات والبروفايلات التي تناولت الموضوع بحمية العصبية للعرب أو للأمازيغ، وكيف أن البعض ألهب الصفحات بمنشورات محرّضة ضد الامازيغ بمنطقة القبائل وحاول من خلال منشورات أن يحمّل المنطقة مسؤولية جريمة تبيّن أن مرتكبوها وفقا لمصالح الأمن الجزائري يخدمون أجندة حركات صنّفتها السلطات الجزائرية على أنها إرهابية (الماك ورشاد) وقالت إنّ الموقوفين قدّموا اعترافات ودلائل تثبت تورط هاتين المنظمتين المعارضتين للنظام الجزائري، ومنه، من كان هؤلاء الذين حرّضوا، وما يزالون، على العنصرية؟ لماذا حاولوا أن يزرعوا فتنة بين الجزائريين وبثّ فكرة عربي وغير عربي وأمازيغي (قبائلي وغير قبائلي)؟

كانت وزارة الاتصال الجزائرية عقب اندلاع الحرائق ووقوع الجريمة المذكورة، قد هددت ضمنيا باتّخاذ إجراءات قانونية ضدّ فيسبوك، حيث ورد في بيان للوزارة بأنّ "ما يتم تداوله في الأيام الأخيرة من مضامين على موقع "فيسبوك" يعد مساسا وتهديدا لمصالح الجزائر وسمعتها" مؤكدة أن الدولة "عازمة على اتخاذ كافة التدابير والإجراءات القانونية ضد هذه الشركة لحملها على معاملة الجزائر على قدم المساواة مع الدول الأخرى"، لكن كما نرى منذ ذلك التصريح الرسمي حتى اليوم، لم تتخذ السلطات أيّ اجراء قانوني ضدّ هذه الشركة، فهل يعني هذا أنّ الجزائر لا تستطيع فرض منطقها على فيسبوك وتحميله مسؤولية قانونية عن تراخيه في تطبيق "معايير المجتمع" التي على أساس أنه يطبّقها على أيّ منشور مشبوه يروّج للعنف والعنصرية والكراهية، مع أنّ واقع الحال اليوم يقول بعكس ذلك؟

المعروف في شروط الاستخدام في فيسبوك أنّه يضع بعض المعايير يسمّيها معاير المجتمع (Community Standards)، ومن خلالها يحدد ما هي العناصر المسموح بها في فيسبوك من محتويات والعناصر غير المسموح بها، نذكر هنا تلك الممنوعة وهي:

-  محتوى يحتوي على عري أو إيحاءات جنسية أخرى

-خطاب يحض على الكراهية، أو تهديدات فعلية، أو هجومًا مباشرًا سواءٌ على شخص أو مجموعة

-محتوى يتضمن أذى نفسيًا أو عنفًا مفرطًا

-الحسابات الاحتيالية أو المزيفة

-المحتوى غير المهم أو الاحتيالي

ومن خلال ما سبق ذكره، يبدو واضحا أنّ الشركة تجاهلت هذه المعايير وهي توفر خدمة الموقع لمستخدميه في الجزائر، فهو على عكس معاييره فيما تعلق بمنع "خطاب يحض على الكراهية"، ترك الصفحات مفتوحة تنشر خطاب الكراهية والفرقة بين أبناء البلد الواحد، نتحدث هنا عنا الجزائريين من مستخدمي فيسبوك، كم عددهم، المئات؟ الآلاف، الملايين؟ ربما الملايين، خاصة وأن الآن، أصبح في كل جيب مواطن جزائري تقريبا هاتف ذكي مزوج بخدمات قوقل والتطبيقات الأخرى عبر الانترنت، لكن أهمها فيسبوك، وأصبحت ظاهرة الاتصال بالأنترنت وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، بالأخص فيسبوك ويوتيوب، واسعة الانتشار لدرجة تستحق دراسة سوسيولوجية ونفسية وحتى إعلامية لمعرفة درجات التأثير والتأثر بمحتويات مواقع التواصل الاجتماعي وكيف تخترق عقول الجزائريين وتوجّه آراءهم وميولاتهم ومواقفهم، ولعل هذا ما حدث مؤخرا، عقب موجة الحرائق التي شهدتها الجزائر في أكثر من محافظة – بالأخص منطقة القبائل، إذن، مثلما قلنا، هل كال موقع فيسبوك بمكيالين عندما تعامل مع الجزائر في أزمة الحرائق؟ يبدو واضحا أن الموقع تعمّد ترك مشاهد فيديو وصوّر مرعبة عن الجريمة البشعة التي راح ضحيتها شاب جزائري، لأنّه كان حرّيا به حجبها بما أنّها مشاهد عنف مرعبة، وأيضا، كان على الشركة أن تحجب تلك الصفحات التي كانت وما تزال تروّج للكراهية والعنصرية بين الجزائريين. وما يجعل الفيسبوك في خانة الاتهام، هو كيله بمكيالين في التعامل مع الجزائر، فمثلا حسب قول وزير الاتصال الجزائري، "منذ أزيد من شهر احتفل الجزائريون بعيد الاستقلال وقد لاحظوا مرة أخرى أن كل صور الاستعمار البشعة أخلاقيا وإنسانيا قد تم حجبها من قبل الموقع لا لشيء إلا لمنع الشعب الجزائري من التعريف بتاريخه"، ومنه، يبدو جليا أنّ الموقع تعامل بشكل مختلف مع الجزائر عندما لم يحجب صورا بشعة وعنيفة بينما حجبها عندما تعلق الأمر بفرنسا الاستعمارية.

هل تواجه الجزائر حربا سبيرانية؟

سبق لوزير الاتصال الجزائري أن حذّر من حرب سيبرانية على الجزائر، أي حرب عبر الفضاء السيبراني (عبر الانترنت)، ومطلع فيفري الماضي في العام 2021 الجاري، كان قد كشف عن شكل هذه الحرب عن طريق تطبيقات وبرمجيات تستخدمها دول للتجسس على شعوبها أو دول للتجسس على دول أخرى، وأنّ الجزائر مستهدفة وتتعرض لحرب عبر الفضاء السيبراني تقودها "إسرائيل والمغرب"، ولعل هذا الكلام تأكد مع ما سمي بفضيحة بيغاسوس للتجسس، الذي اتهمت فيه المغرب بأنها استعملت هذا البرنامج الذي طوّرته إسرائيل ضمن أبحاث عسكرية تستعمل للتجسس على الدول والمنظمات والأشخاص، وحسب المعطيات التي توفرت بعد الفضيحة والتي كشفتها وسائل اعلام أوروبية، فإن العديد من الشخصيات والقيادات العسكرية في العديد من الدول تعرضت للتجسس عن طريق هذا البرنامج الذي تكون المغرب قد استعملته، بحسب المصادر الإعلامية الأوروبية، وأن الجزائر كانت أيضا عرضة لهذه العملية طالت عدة مسؤولين سامين وشخصيات عسكرية وسياسية، إذن، يدخل هذا، إن حدث فعلا، في سياق هذه الحرب التي تحدث عنها الوزير، يضاف إلى هذا ما تقوم به المواقع الالكترونية والسوشل ميديا من حملات مناهضة للسلطة ونظام الحكم في الجزائر، منها صفحات فيسبوكية.

هل تملك من الإمكانيات التقنية ما يجعلها قادرة على مواجهة مثل هذه الحرب؟

من المعروف أن الاعلام سلاح ذو حدّين، وكذلك السوشل ميديا الآن، لذلك فبالقدر الذي تثير الانترنت عموما ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصا الفتنة من خلال خطاب الكراهية السائد عبر أكثر من صفحة فيسبوكية، والعنصرية وصور العنف والفيديوهات المشبعة بهذه الخطابات، تعمل بالمقابل على النقيض من هذه الفتنة، أي، مثلما هو ظاهر عبر نفس الفضاء السيبراني، من مواقع الكترونية والسوشل ميديا بالأخص، حيث استفادت مثلا مصالح الأمن في الجزائر من هذه الوسائل لتوقيف مجرمين تورطوا في تلك الجريمة البشعة في حق الشاب الذي قتل حرقا في منطقة القبائل، وفي اشعال النيران، إذن بفضل الفيسبوك الذي كان مشبعا بالصور والفيديوهات، تم اسكات الكثير من الأصوات التي كانت تقول بتورط النظام الحاكم في المسألة، حيث ثبت بحسب مصادر الأمن أن المتورطين هم من حركة رشاد والماك (صنّفتا كمنظمتين ارهابيتين) من طرف السلطات الجزائرية مؤخرا، لكن السوشل ميديا التي برأت الشاب جمال بن سماعيل ( المقتول حرقا) هي نفسها التي أتاحت للمعارض المقيم بإنجلترا العربي زيطوط، زعيم حركة رشاد، له الفرصة ليبث يوميا فيديو مباشر يمارس فيه معارضته للنظام ويتحدث عن الجيش يوميا بوصفه عصابة، ونفس السوشل ميديا هي التي سمحت لمن يعرف بأمير ديزاد، الشاب الجزائري المقيم بفرنسا الذي هو أيضا يبث لايف عبر الفيسبوك ليتحدث ويعرض صورا أو وثائق يتهم فيها قيادات ومسؤولين في السلطة الحاكمة، لذلك تحدث وزير الاتصال الجزائري عن حرب سيبرانية تواجهاها الجزائر منذ بداية الحراك، وأن المغرب إحدى الدول المتورطة في هذه الحرب ولوبيات وأطراف خارجية تؤثر على هذه المواقع. لكن الجزائر حسب ما قال وزير الاتصال في تصريحات سابقة، تملك التقنية اللازمة لمواجهة الحرب الالكترونية الموجّهة ضدّها، وهذا من خلال انتاج محتوى وطني نوعي على المواقع الإلكترونية الإعلامية والأرضيات العلمية، ويشمل هذا المسعى أيضا تأمين الشبكة تكريسا لسيادة الدولة على مجال الرقمنة، وليس هذا فقط، فهي بحسب خبير جزائري في الجيو-سياسة والأمن، تملك كافة الوسائل لمجابهة الهجمات السيبرانية وحتى الرد عليها، وكان هذا الخبير وهو الدكتور أرسلان شيخاوي، قد تحدث منذ أشهر عن الحرب السيبرانية وكيفية مواجهتها، وقال إنّ هناك طاقات بشرية مكونة لمواجهة هذه التهديدات في الوقت المناسب، وترى الجزائر هذه الحرب في اطار سجالها مع الجارة المغرب، خاصة وأنها أكدت عبر تصريحات المسؤولين الجزائريين بأن هناك حملة عبر الانترنت تستهدف الجزائر، لكن وهذا هو المهم في الوقت الراهن، لماذا لحد الساعة لم تتخذ الجزائر خطوة قانونية ضد فيسبوك الذي لم يتخذ أي إجراءات لمنع انتشار محتويات عنف وعنصرية ما تزال تعجّ بها الصفحات الفيسوكية؟ وكيف ستتعامل لاحقا مع الفتنة القائمة الآن والتي تغذّيها هذه الصفحات ومواقع الكترونية سواء إخبارية أو عبر الفيسبوك؟ ولماذا مثلا لا تقوم الجزائر بحجب هذه الصور والمشاهد العنيفة، أو تحجب صفحات وبروفايلات يكون أصحابها متورطون بشكل أو بآخر في خدمة أهداف الحركات التي ذكرناها سالفا؟ أليس هناك ما يسمى بالجيش الالكتروني في كل بلد تقريبا؟ إذن، أين هو الجيش الالكتروني الجزائري لمواجهة هذه الحرب؟