مصطفى قطبي

لقد أدرك السواد الأعظم من أبناء ليبيا متأخرين أنهم كانوا، ولسنوات طويلة، الأبناء العاقين، الذين عملوا على تخريب حياتهم،  وطمر أخطائهم  في أحشاء بلدهم ليبيا،  فتحول  الكثير منها إلى أمراض وعلل يصعب حلّها اليوم، هذا عدا عن أنهم - وللأسف - لم يعملوا على معالجتها بشكل حقيقي، بل قاموا بالالتفاف عليها وتجميلها وإخفائها بطريقة تشبه إخفاء النار تحت الرماد الملتهب... ومع تراكم الجروح في جسم ليبيا، والتهاب الكثير منها وتقرّحها ونزفها الدائم، في حضرة الفساد بمجساته الماصة للخيرات، وتكاثر طفيلياته وانتشارها، بربطات عنق الوزراء والمسؤولين المصنوعة من لقمة عيش المواطن الليبي، وبارفاناتهم الباريسية الممزوجة بقطرات عرق العمال والفلاحين، مات هذا الجسد الليبي سريرياً،  لتبدأ مرحلة إنعاشه المستوردة من كل أصقاع العالم. ومما يؤسف له اليوم في ليبيا، الكلٌّ يرى نفسه حاكما حكيما أو "إلها وشبه إله"، يحكُم ويتحكَّم ويفعل ما يلبي مطامعه وطموحاته ورؤاه وانتماءاته الضيقة وأمراضه الفردية والجماعية، أو ما يُطلب إليه فعله من آمر أو من وليّ نعمة وأمر، أو ما يتهيأ له أنه فلاح ويتمناه نجاحا بل يراه كذلك؟! ومِن أسف أنه مَن يفتك أبشع، ويدمر أكثر، وينتهز أبرع، ويرتكب كما أكبر من المَفاسد أو الجرائم أو الجهالات... يصبح عنتر الساحات الليبية، وموضع ثقة، وصاحب رأي ونفوذ، وصانع قرار ومدبر مصير، وحامي حمى ليبيا والناس... بينما الناس من حوله يتآكلون ويؤكلون؟ 

ليبيا اليوم تعيش زماناً للقهر و القهقرى، يحصد فيه الشعب الليبي ما خبأوه له من كذب قديم و حديث ومعاصر، لترتد أكاذيبهم إليه حراباً لم تعد تمهل... وبعد كل ما جرى ويجري نتساءل: هل من أوكلت إليهم إدارة ليبيا يقف على أرض صلبة أم على رمال متحركة؟ وهل طبقوا ما آمَنوا به بشكل صحيح على أرض الواقع؟ وهل فعلاً كانوا الأبناء الحقيقيين لليبيا التي يديرون دفتها وفق مبادئهم، أم أصبحوا في زحمة المتغيرات الدفة التي يمسك بقبضتها وشيفرة إدارتها أولئك المتسللون من خلف الشعارات والمنابر إلى كراسي القرار بأفكارهم الماطرة في حقول الرأسمالية المتوحشة؟

تتعرض ليبيا اليوم للنهب والفساد والإفساد، فيها لبعض أبنائها يد ونصيب مما يدخل في باب الغريب العجيب... ربما لجهل أو لغرض، وربما بسبب ما لحق بهم وبانتمائهم وثقافتهم من عطب وضلال وتضليل سياسي وثقافي وإعلامي... ومع إعاقة آلية النقد والنقد الذاتي (الصماء، البكماء، العمياء) والتي لم يطبقوا منها إلا القشور،  سارت المواكب في كهوف المحاباة والمجاملة إلى الحد الذي أصبح الليبي ينكر على الحليب لونه الأبيض، وللأسف فالذين تسلطوا على مقدرات البلاد وحكموا رقاب العباد، قلبوا الحق إلى باطل، وحوّلوا المخرب والفاسد إلى مصلح وناصح وفارس في ميدان الإصلاح، وبذروا في حقول حياة المواطن الليبي العامرة بتخلّيه عن صدقه وشفافيته وجرأته، الأشواك التي أدمت قلب ليبيا وأوصلت الشعب الليبي إلى أزمة استثنائية. والحقيقة الثابتة أنّ أولئك الذين تفرضهم قبائل وأحزاب ومحاصصات وتنظيمات ومنظمات "داخلية وخارجية" ودول وقوى ذات مطامع، لكي يحكموا ويتحكموا في ليبيا، ويعطلوا النهوض والتغيير الإيجابي بإلغائهم لفاعلية كلِّ كفء ونظيف ومنتمٍ بوعي وإخلاص وثقة لوطنه ولشعبه... بشل أدائه، وتحييده، وإنهاء وجوده، وتشويه صورته... بسبب انتماء أو اعتقاد أو تفوق واقتدار أو كشفٍ لهم ولأساليبهم، أو لأخذ مكانه... لن يتوقف تخريبهم للبنية الاجتماعية واستهدافهم للهوية الوطنية الليبية، ونخرهم لمقومات الوجود الليبي، وزلزلة الأسس والقواعد الناظمة للحضور الشعبي الليبي..

نعم، لقد مارست حكومة الدبيبة وقبلها حكومات سابقة نشوة النفاق مع بلدهم ليبيا، فكانت ولادة ذلك الابن غير الشرعي الذي لا يمكن أن ننزع عنه ليبيته، بغض النظر عن حاضنته التركية والغربية المتأمركة، وطبعاً قبل الوصول إلى هذه الولادة بمخاضها الميليشياوي، لابد من الإقرار أنّ الشعب الليبي ظلم بالماضي ويظلم بالحاضر ويعيش اليوم ظلمات، فقد أجمعت جميع الحكومات السابقة واتفقت على انتصارها الدائم للظالم على المظلوم، وإغراق المواطن الليبي في مستنقع الهموم والحاجة التي نهشت بأنياب الدعم والبطالة وتهميش الشباب وعزل الفقير في محميات عشوائية ومنح المناصب والكراسي حسب  توزيعات انتمائية وقبلية وولاءات ضيقة... نعم، بهذه الأنياب نهشوا كل تطلعات الشعب الليبي نحو المستقبل، لقد تجاوز أولئك وأدواتهم ومَن يولونهم الشعب الليبي والقانون، وأسكتوا تنظيمات المجتمع الهشة أو المدخولة بولاء... لقد وصلوا إلى الحكم والتحكّم ويحققون ما يريدون وما يُطْلَبُ منهم تحقيقه، ويتطهرون من آثامهم وجرائمهم بعد أن يغتسلوا من دماء الشرفاء الليبيين بماء ثقة الموالين والمحازبين والآمرين من الميليشيات، بأنواعهم وألوانهم ومشاربهم وأطماعهم ومصالحهم... هؤلاء المسؤولين والحكام الجدد في ليبيا، لا يكفون عن القيام بدورهم التدميري، ولا يعنيهم أن يرتاح المواطن الليبي في ظل عدل وأمن من جوع وخوف، وليس لهم اهتمام بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية والإنسانية، لأنهم يستندون إلى قوة داخلية وخارجية، وهم من ذوي الملاءة المالية، نتيجة النهب الذي أصبح سمة ملازمة لكثير من المسؤولين وأدواتهم والموالين لهم في كل مفاصل الدولة الليبية... 

ومما يدعو للغثيان، أنه في الأوساط الاجتماعية والإعلامية الليبية، يوجد من يروج لأكاذيبهم بجهل، نتيجة ولاء أو طمع، وهناك من يفعل ذلك وهو يعلم أنه يستهدف ليبيا والشعب الليبي والحقيقة والمستقبل... وأنه بذلك الفعل المُدان لا يراعي حقوق المواطن الليبي وأصول المواطنة وواجباتها، ولا يرعى مصلحة ليبيا، ويعمل عملا مدانا بكل المقاييس... وقد آن للشعب الليبي ألا يستهين بدور الساسة الفاسدين المفسدين، وبدور المتآمرين والجهلة والأدوات، وبمَن يعرضون أنفسهم بضائع في سوق السياسة وأسواق الكلام... وهم كثر في هذه الظروف، ويكثرون في المجتمع والحياة السياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية الليبية نتيجة الفوضى وعدم الاستقرار... لابد أن يدرك الشعب الليبي أنّ ما يحصده اليوم من فتنٍ وانهيارات في كثير من المجالات، هو نتيجة لذلك الهزال والفساد الذي ما زال يتربع على مقاعد النفوذ ويتولى المسؤوليات، ويستولي على الثروات، ويتاجر بالأرواح، ويعمل في الظلام على نخر كل ما يقيم قوام الشعب والوطن.

الشعب الليبي الذي منه وفيه كل التناقضات والمتناقضات والتطلعات والبطولات والتضحيات والآمال، ما لم ينهض ويرفع الصوت عاليا، فإن ليبيا سيعوَّم الفساد والإفساد فيها، وستستشري الفوضى، وتبقى ليبيا قيد التدمير والتعثير اللذين يضاعفهما إعلاء شأن الولاء والادعاء، واتباع نهج الاستقطاب والتبعية، واستمرار سياسات ملغَّمة بأمراض تخلق مناخ التطرف وتستهين بمعالجة أسبابه العميقة، وتتغاضى عن وسائل استئصال وجوده من الجذور بتغيير حقيقي يبدأ من الذات بنزع ما فيها من أمراض، ونزع ذلك وأشباهه مِن الممارسات والسياسات والتفكير والتدبير، بهدف الشفاء مِن أمراض تفتك بالبنى الاجتماعية وبالعلاقات والانتماء والروح الوطنية الليبية، واعتماد نهج مغاير للسائد يقوم على وعي معرفي، وعلى عدل وخُلُقٍ ومساواة بين الناس، واحترام حقيقي ـ عملي للحقوق والحريات. وإذا لم يبادر الشعب الليبي ويطالب بتغيير فعلي ينهي الأوضاع المأساوية الراهنة، ويتجاوز المعالجات السطحية للأمور، ويلغي التمويه على أهداف وأغراض مبطنة تغاير المعلن من أهداف وأغراضٍ وتنقضها... فإنَّ مناخ الفتنة والفساد والإفساد والظلم، سيفرِّخ ويستشري ويستمر، وسيكرس عداءً بينيا وضعفا وطنيا، وتبعية وموالاة للأجنبي، وتقرّبا من أعداء ليبيا وتقريبا لهم لأغراض منها الاستقواء بهم وتحقيق غَلَبَة على الخصوم بمساعدتهم... وعلى رأس أولئك الأمريكيون الذين يحرثون في المجتمع الليبي ويبذرون ويحصدون، وسيرى الشعب الليبي من النتائج السلبية عليه وعلى قضاياه كافة، في مختلف الصعد الداخلية والخارجية، ما لا يخطر له على بال.

خلاصة الكلام: نعم، عفواً ليبيا... ففي الوقت الذي نقف فيه اليوم ونحن في حضرة شهر رمضان الإيمان، خاشعين متضرعين لله أن يمنح ليبيا الأمن والأمان والاستقرار، وأن يئد الفتنة بأفاعيها القادمة من جحور أعدائها... هناك من يستمر في إدماء قلب ليبيا النابض، و تقطيع شرايين صمودها من خلال استمراره في امتصاص خيرات وثروات ليبيا، فالمطلوب من عامة الشعب الليبي التقشف والتقنين والتأقلم مع الأزمات، وزيادة جرعة المسكنات لأوجاعهم وآلامهم، في حين يستمر بقاء الضروع الموجودة في كل مؤسسة وشركة بدسمها المهدور في جيوب المسؤولين و النواب والوزراء وأمراء المليشيات والتابعين والموالين...