برهان هلّاك

مطلع صيف هذه السنة، وبالتحديد في 17 جوان 2022، تم تسجيل انخفاض في نسبة المخزون العام للسدود بالبلاد التونسية لتكون في حدود  309،009 متر مكعب مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2021. وبلغ مخزون السدود للموسم الحالي نحو 1072،500 متر مكعب، في حين بلغ معدل مخزون السدود خلال نفس الفترة بالسنوات الثلاث الفارطة 1379،509 متر مكعب وفق معطيات الإدارة العامة للسدود والأشغال المائية الكبرى التونسية. وبلغت الإيرادات الجملية للسدود التونسية لسنة 2022 نحو 0،080 متر مكعب موزعة على سدود الشمال (0،055 متر مكعب)، وسدود الوسط (0،016 متر مكعب)، وسدود الوطن القبلي (0،005 متر مكعب).

وباعتماد هذه الأرقام كمؤشر، سوف لن يخفى على أحد سير تونس الحثيث نحو عطش قادم لا محالة، خاصة وأن البلاد التونسية قد دخلت رسميا صنف البلدان ذات الفقر المائي؛ كان المختصّ في التنمية والتصرف في الموارد المائية، حسين الرحيلي، قد أكد اتساع رقعة العطش في تونس وتكرر انقطاعات الماء الصالح للشراب، مشيرا إلى أن محافظات صفاقس ونابل وسوسة هي المحافظات التونسية المتصدرة لانقطاعات المياه. وشدّد حسين الرحيلي على أن تونس قد دخلت بالفعل مرحلة الفقر المائي، خاصة وأنه تم تصنيفها ضمن مناطق الضغط المائي منذ عام 1995. وحذّر من أنه، وفي حال تواصل تغافل الطبقة السياسية عن القضية المائية المحورية، فإن الوضع سيبلغ مبالغ عظيمة من السوء قد تصل حد تقنين نفاذ التونسيين إلى الماء، "ربما لساعة أو ساعتين فقط خلال اليوم".

واستناداً إلى مؤشرات أخرى عالمية متمثلة في تقارير تستقي تحليلاتها من معطيات رسمية للدولة التونسية، يُحَدَّدُ نصيب الفرد الواحد من الماء في تونس في الوقت الحاضر بأقل من 400 متر مكعب في السنة، نصيب ترتفع احتمالية تضاؤله في السنوات المقبلة ليبلغ 350 مترا مكعبا في السنة، أي أقل 50 في المئة من الكمية الموصى بها من طرف منظمة الصحة العالمية، والتي تتراوح بين 750 و900 متر مكعب سنوياً.

في مقال صادر باندنبندنت عربية، أحصى الصحفي محرز الماجري أكثر من 24 ألف انقطاع للمياه الصالحة للشرب، وذلك نقلا عن المتخصص في المجال البيئي والتنمية المستدامة، عادل الهنتاتي؛ قال هذا الأخير أن هناك نقصاً كبيراً في المياه، خصوصاً مع شح الأمطار في السنوات الأخيرة، حيث أصبح تدفّق المياه في الشبكات ضعيفاً. وأضاف أن انقطاع المياه بحسب أرقام وزارة الزراعة مر من 14 ألف انقطاع في السنة إلى حدود 24 ألفاً في السنوات الأخيرة، وهو بحسب ما قاله أمر مفهوم باعتبار أن 62 في المئة من تجهيزات الشبكة المعتمدة لنقل وضخ المياه في تونس متهالكة، وهو ما يفسر مثلا، عدم القدرة على ضخ المياه في الأماكن المرتفعة (طوابق المباني المرتفعة نموذج على ذلك).

ويقال أنه يمكن حل هذه المشاكل إذا ما خصصت شركة استغلال وتوزيع المياه الحكومية التونسية خطة عمل واضحة المعالم ورصدت موارد مالية كافياً لإصلاح شبكة استغلال وتوزيع المياه بتونس. ويبدو أن لذلك وجاهة، إذ تتسبب البنى التحتية لنقل وتوزيع المياه المهترئة في خسارة موارد مائية ثمينة للغاية

وتوضح ورقة بحثية نشرها الصحفي محمد رامي عبد المولى بجريدة السفير العربي حقيقة أن نسبة من إهدار المياه في تونس تتسبب فيها حالة البنى التحتية والشبكات المائية. فمثلاً، تفقد السدود في تونس قرابة 20 في المئة من طاقة التخزين بسبب الترسبات ونقص الصيانة. وحسب الأرقام المقدمة من طرف الدكتور حمزة الفيل، الباحث في مجال تحلية المياه ورئيس مخبر بـمركز بحوث وتكنولوجيات المياه الذي استند إلى تقارير الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه ووزارة الفلاحة بتونس، فإن نسبة المياه المهدورة هي في حدود 30 في المئة بالنسبة لشبكات الشركة، وتتجاوز 40 في المئة في قنوات المياه الفلاحية. ويعدد الباحث أسباب ضياع الماء، ومن أبرزها "تقادم شبكات توزيع المياه وقلة الصيانة، حيث يزيد طول شبكة الشركة الوطنية عن 55000 كم، 40 في المئة منها يتجاوز عمرها 29 عاماً، و17 في المئة منها يتجاوز عمرها 49 سنة. وذلك بالإضافة إلى بطء التدخل لإصلاح القطع المكسورة في الشبكة (حوالي 20 ألفاً سنة 2019) وأعطاب تسرب المياه، والتي بلغت 201519 سنة 2019 في الشبكة، وغياب الشبكات الذكية. في ما يعاضد المختص في مجال الموارد المائية، ناجح بوقرة، هذا التقييم إذ يعتبر أن الإهدار يحصل بشكل رئيسي في المنشآت، وليس عند الاستهلاك، أي في مستوى الأنظمة المائية وخاصةً في شبكات إنتاج ونقل المياه. "إن الإهدار حاصل في أعلى الشبكة وليس في أسفلها".

وكان مقرر الأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، بيدرو أروخو أغدودو، قد أنهى زيارة لتونس دامت 12 يوماً التقى خلالها عدداً من المسؤولين الحكوميين، بينهم وزير الخارجية ونشطاء حقوقيون. وسجل في ختام زيارته جملة من العوائق التي تواجه تحقيق العدالة في توزيع مياه الشرب، خصوصاً في الأرياف. وفي ذلك إشارة إلى تفاوت نسب الربط بشبكات المياه الصالح للشرب بين جهات البلاد، إذ تتراوح النسبة بين 28 في المئة و44 في المئة في محافظات الوسط الغربي، في حين تبلغ 100 في المئة في العاصمة والمحافظات الساحلية، وهو ما يتنافى والحديث عن عدالة مائية وحوكمة رشيدة لمقدرات البلاد من المياه الثمينة.

وبالإضافة إلى التفاوت الجهوي بين محافظات البلاد التونسية، فإن هناك تفاوتا أيضا في ما يتعلق بنسب الربط بشبكات توزيع المياه بين المجالات الحضرية والريفية؛ أوضح التقرير الختامي لزيارة مقرر الأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، بيدرو أروخو أغدودو، أن 57 في المئة فقط من التونسيين يحصلون على مياه شرب مأمونة، بينما لا يزال 650 ألف شخص لا يحصلون على المياه الصالحة للشرب في بيوتهم، معظمهم يقطنون المناطق القروية والريفية. وحتى إذا حصل الأهالي في مثل هذه المناطق المذكورة على المياه، فهي مياه ذات طعم ورائحة منفرتين "لا تقوى البهائم على شربها" على حد عبارتهم. إن ذلك لدليل على التراجع الكبير لجودة المياه التي توزعها الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه في تونس، ومدى الإجرام في حق صحة التونسيين وسلامتهم الجسدية.

قال البنك الدولي في تقرير تم نشره في منتصف سبتمبر 2021 أن تغير المناخ قد يدفع حوالي 19 مليون شخص في شمال أفريقيا إلى الهجرة الداخلية بحلول سنة 2050.وتوقع التقرير تحول تونس العاصمة وضواحيها إلى "واحدة من بؤر الهجرة الداخلية إذا لم تتخذ السلطات التونسية التدابير اللازمة". ويكابد التونسيون شتى صنوف العذابات جراء التغيرات المناخية المتسارعة التي سببت ارتفاعا مطّردا في درجات الحرارة، ورفّعت من خطر الجفاف المحدق بالبلاد في ظل شح الموارد المائية، وهو ما يجعل من مثل هذه التوقعات الواردة بتقرير البنك الدولي ذات احتمالية وقوع جد مرتفعة.