برهان هلاك

سنسوق في هذا المستوى تقديما هو عبارة عن نص غضبي ملؤه المرارة و الإحباط، و ليرحم الله موتى الإهمال و تخاذل الدولة المتنكرة للعقد الإجتماعي و المتنصلة من دورها في صون الحياة البشرية.

رئى تنهار و قبضات ترتخي و جفون تغمض و دقات تخفت شيئا فشيئا حتى تندثر كليا ... في القيروان كل الساعات تشير إلى الموت و الأطباء يملّون إعلان وفاة المرضى: ذاك مات قبل أن تصله جرعات الاكسجين، تلك توفاها الأجل قبل أن تصير مواطنة حقيقية، مات هذا على الساعة العاشرة إثر اختناقه بترهات لصوص البلاد، ذاك قد مات قبيل تطعيم تلقاه السيد رئيس هيئة الحوكمة الرشيدة و مقاومة الفساد، فلان وافته المنية بُعيد التشديد على تطبيق الاجراءات، فالمرحوم كان نافذ الصبر، و فيم العجلة، كان من الأجدر به أن ينتظر دوره الشفاف في استراتيجيا انتقاء الأجدر بالحياة ... عذرا، قصدنا أن نقول استراتيجيا التلقيح

دموع الهالكين كمدا في وطن عجز عن توفير الهواء لرئى أنهكها المرض و سموم الأبخرة المتصاعدة من أفواه المستكرشين و الغلاة و السرّاق و الفاسدين و الظلاميين ساسة هذا البلد الأمين تونس الخضراء، و للأمانة تجدر الإشارة إلى أن خضرتها طالما كانت نسبية، و كما مبدأ تمثل الجميل إستيتيقيا، فهي تعتمد على موقع الناظر من عملية توزيع الثروة و طبقته الاجتماعية؛ فإن كان من الميسورين فسيراها كما يرى الإىطالي هضاب توسكاني في خضرة لا تشوبها شائبة، و إن كان من المعدمين الذين لم يعود يبصرون عتبة الفقر، فسيراها جرداء صفراء تشي بمزيد الجوع و القحط.

أنّات المرضى الهامسين الموقنين بمآلهم البائس و هم يتخبطون فوق مطبات و حفر شوارع البلاد في سيارات تنقلهم إلى مستشفى ميداني ( عسى أن تضحكهم السخرية القاتمة وراء حقيقة استخلاصهم لمعاليم الجولان و الضرائب البلدية يوم أن كانوا لعرباتهم سائسين قبل السابعة مساء، أي قبل الخوف على صحة محركات عرباتهم: لو احتججنا على حفر الشوارع لما بزغ لنا منها الجرذان الأنيقون بربطات عنقهم التي تلتف على حناجرنا الآن فتمنعنا من بعض أكسجين ظننا أن توزيعه عادل على الأفواه و الأنوف و الرئى الحية). السيد مدير فرع الشركة الوطنية للكهرباء و الغاز يتحجج بطير ساقته أقداره المشؤومة، بل و غباء مستفحل بإعتبار أن له من الأجنحة ما يخول له الإبتعاد عن هذه البلدان الموبوءة، ليقول بأن اصطدام هذا الطير بمحول كبير منتج للطاقة الكهربائية قد أدى إلى قطع التيار الكهربائي، دون أن تكون له من إحترام الذات النزر القليل الذي يدفعه إلى الإعتذار من أهالي من ماتوا جراء إختناقهم بعد أن توقف عمل آلات التنفس الإصطناعي! و يبدو أن السيد المدير يلمّح ضمنيا إلى أن من ماتوا هم من سلف أصحاب الفيل و أن الطير كان منحدرا من نسل طير الأبابيل، و لذلك لا يجوز حتى الترحّم على الهالكين و لا مواساة أهاليهم ببعض من كلمات جافة ألفها قاطنو رقعة الفجائع هذه.

أما و قد نفّسنا عن الإحباط الآن، فإنه من الأجدر أن نشير إلى علاّت كل هذا الموت المجاني بمدينة القيروان بإعتبارها أنموذجا للألم الوطني التونسي فيما يتعلق بالحصيلة الثقيلة لإنتشار فيروس كورونا في هذه المدينة، خاصة في الأيام القليلة الماضية

يتقاطع لصوص الدولة الحديثة و لصوص الله فيما رسخوه لهذه المدينة من هويات قاتلة؛ فالأولون يزورونها ليلة القدر ملتحفين جبّة الورع الرسمي التي ترافق مناصبهم في دولة لها من الجبن ما يعرقل حسمها في مسألة حيوية هي مسألة إصلاح العطب في علمانية الدولة المبتورة و المنقوصة، و أما لصوص الله فهم يعدون " القراوة " ( سكان مدينة القيروان في اللهجة التونسية) المضطهدين الرازحين تحت كلكل التفقير بفردوس سماويّ يبدّد معاناتهم الدنيويّة و يعوّض شقاءهم " بالدنيا الكاذبة " و يؤكدون لهم أن مدينتهم أولى مدن الإسلام في شمال إفريقيا، و لكن مكرهم و خبثهم يمنعهم من إتمام ذلك الإقرار، فهي أولى مدن الإسلام و آخر المدن فيما يتعلق بالنصيب من الثروة الوطنية و المناب من منافع دولة الرعاية الإجتماعية، إن وجدت. إن هؤلاء " المسمومين الذين تعبت منهم الأرض "، كما يصفهم نبي الزرادشتية في أسفار نيتشه، قد تركوا هذه المدينة لفقر مدقع و خصاصة كبرى إقتصادية ( حوالي 30 % من قاطنة المدينة فقراء حسب إحصائيات وزارة الشؤون الإجتماعية لسنة 2021) و معرفية ( ثلث سكان القيروان أمّيون حسب إحصائيات إدارة محو الأمية وتعليم الكبار بوزارة الشؤون الاجتماعية التونسية لسنة 2019) و روحية ( فيما يتعلق بمشروبات الروح، إذ يقضي العديد من القيروانيين نحبهم كل عام نتيجة الخمور ذات الصنع المنزلي الرديء و الخلطات القاتلة في مدينة تفتقر إلى نقاط بيع رسمية و قانونية للمشروبات الكحولية).

و لكن الخطير في أمر إنتشار حلقات العدوى القاتلة في هذه المدينة هو حقيقة التقهقر الكبير للمنظومة الصحية في البلاد التونسية إجمالا، و خاصة بالقيروان التي تكاد تضمحل فيها البنية التحتية الصحية في مدينة يكون فيها أكثر من 60 % من التحاليل التي تُجرى يوميا إيجابية و يكاد الطاقم البشري فيها يفنى إثر إصابة أغلب الطواقم الطبية و شبه الطبية بعدوى الفيروس؛ مدينة القيروان التي تعدّ 680 ألف نسمة تسجل يوميا ما يناهز 400 إصابة جديدة بالكورونا، و لا توفّر سوى 7 أسرّة إنعاش بعد إضافة سريرين في الأيام القليلة الماضية، كما تسجّل يوميا أرقاما مفزعة للإصابات بالكورونا في صفوف الإطارات الطبية وشبه الطبية بدءً بالمستشفى الجهوي ابن الجزار وصولا الى المستشفيات المحلية بالمناطق حيث يسجل مستشفى ابن الجزار يوميا عشرات الإصابات، في حين سجّل المستشفى المحلي ببوحجلة في الأيام القليلة الماضية ما يقارب 30 إصابة في صفوف الإطار الطبي و شبه الطبي، و سجّل مستشفى منطقة نصر الله 11 إصابة بكورونا مما دفع مدير المستشفى إلى غلق قسم العيادات الخارجية.

و يتضح، يوما بعد يوم، أن الأزمة في هذه المدينة، كما في سائر المناطق التي تشهد إرتفاعا كبيرا في عدد الإصابات المسجّلة، هي أزمة  في قطاع الصحة، و هي جزء من أزمة أشمل تعيشها الدولة من حوالي عقد و ذلك على عدة مستويات صحية و أمنية و إجتماعية و إقتصادية و سياسية و أخلاقية و إعلامية. و تدفع القيروان اليوم، كما مثيلاتها من المدن المنكوبة، ثمن باهضا لرفض الطبقة السياسية إصلاح أو إنشاء منظومة صحية جديدة على المستوى القانوني و الإداري و الإجتماعي، و إعادة إنجاز منظومة رعاية صحية و إجتماعية شاملة و متكاملة.