عبد الستار العايدي

ما يعتبره البعض حنكة ودهاء سياسي أو قائدا لنظام سياسي حاكم، هو الانفصام السياسي للشخصية الإخوانية في شخص رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي يتمتع بسرعة تغيير موقفه السياسي في لحظة إستقرت فيها قيادات حركته وأنصارها على الموقف السابق، مما جعل مواقف حركته متأرجحة ولا طريق واضح لها ، لعلّ سبب ذلك أن يكون إحدى مواقفه هو بداية الكشف عمّا يبطن من خفايا الأمور والمواقف التي يدّعيها وخوفا أن يعدل قيادات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين عن مناصرته وتقهقر صورته المضخّمة عبر الدعاية التركية والقطرية التي تأسست على وعوده السابقة الخفيّة أن تكون تونس المكان الرئيسي الثاني لإنطلاق الإخوان في مشروعهم الكبير في العالم العربي وإفريقيا. وهذه بعض ملامح تشكّل حالة الانفصام السياسي لراشد الغنوشي التي سجّلها التاريخ.   

سنة 1964 وبعد سفره لمصر، إدعى إنتسابه للفكر القومي الناصري ورأى ضرورة توحيد الفكر الناصري مع التيارات القومية الأخرى مثل حزب البعث وحمل هذا الإعجاب معه إلى سوريا . وبعد طرد جمال عبد الناصر للطلبة التونسيين آنذاك خلال خصامه مع الحبيب بورقيبة، ناصر الشخصيات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين ضد جمال عبد الناصر إبان هزيمة 1967 ، وإثر انتقاله إلى سوريا لم يرى بدّا من إنتسابه لحزب البعث العربي الاشتراكي. ولكن بعد سفره إلى فرنسا كشف عن نواياه الحقيقية بالإلتحاق بصفوف الإسلاميين

تبنىّ الغنوشي في ظرف سنوات قليلة أفكار ثلاثة تيارات سياسية مختلفة بحثا عن فكر يناسب ما يبتغيه وما يريد تحقيقه من وراء ذلك، ودون تجسيد واضح لعقيدة سياسية. كيف لشخص أن يكون قوميا ناصريا ثم قوميا بعثيا وإخوانيا في نفس المرحلة التاريخية؟.

وفي صراعه مع الحبيب بورقيبة، يستغل الغنوشي مرة ثانية فكر القومية العربية ليلوذ بخطابات الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان يدعو للوحدة العربية وفي خلاف مع بورقيبة ولكنه إبتعد عن التعاون مع معمر القذافي لأنه كان يتبع فكر القومية العربية مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يعادي جماعة الإخوان المسلمين.

في التسعينات، أعلن مباركته غزو صدام حسين للكويت رغم عداءعه للفكر القومي، وقد تداول بعض الكويتيين صورة استقبال صدام حسين له في بغداد في ذلك الحين، قبل أن يصدر تنظيم الإخوان المسلمين بيان تأييد المعتدي الذي أسهم في شق الصف العربي، وشكل واحدة من "وصمات العار في تاريخ الجماعة وفرعها التونسي (حركة النهضة)"، وفقا لتصنيف لأحد قيادات الحركة عبد الفتاح مورو.

في علاقته بالنظام البورقيبي، هاجم رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي 11 جوان 2013 خلال استضافته في إذاعة شمس آف آم الحبيب بورقيبة، قائلا أن بورقيبة رمز الحداثة الغربية وإتّهمه بعد إحترام الاسلام بالعودة  إلى دعوة بورقيبة سنة 1960  الشباب للإفطار خلال شهر رمضان.

خلال إحياء الذكرى الثامنة عشر لوفاة الحبيب بورقيبة، كتب راشد الغنوشي تدوينة على صفحته الرسمية، مذكّرا بما فعله بورقيبة واصفا نظامه بالديكتاتوري  الذي قسم التونسيين إلى سلطة تخون معارضيها ومعارضة تفكر في حماية نفسها من القمع عِوَض المشاركة في تدعيم مكاسب الاستقلال. ليختم مترحّما على كل بناة الدولة وفِي مقدمتهم الحبيب بورقيبة

وفي حوار تلفزي قال  الغنوشي: "إن الحبيب بورقيبة زعيم لا يمكن ان ننكره فهو قد أسّس الدولة المستقلة وبنى منظومة تعليمية وصحية جيدة ولا يمكن محوه وإزالته من التاريخ"، مبرزا أن بورقيبة ساهم في ضرب الهوية الدينية ومحاصرة المناضلين وإدخالهم السجون، متابعا "أنا من بين من ظلمهم بورقيبة." 

ومن تضارب مواقفه حول المدرسة البورقيبية، إستعجاله الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع رئيس حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي ورئيس الجمهورية الراحل والاتفاق حول سقف سياسي يخدم مصالح الطرفين رغم رفض قيادات حركته ومجلس الشورى . بل كان الغنوشي سببا في عدم تمرير "قانون  تحصين الثورة" الذي يقصي أنصار بن علي من الحياة السياسية

وفي صراعه مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، أوضح راشد الغنوشي في شهادة لمجلة "سياسات عربية": كان إخواني في حركة النهضة يصفون موقفي من بن علي بأنه يتضمن الكثير من الشخصنة وكان هذا الأمر محظورا داخل الحركة التي تشدد على عدم نقد بن علي مباشرة." 

شخصنة تأكدت حين صرّح بعد نجاح إنقلاب بن علي على بورقيبة  قائلا "ثقتي بالله في السماء وبن علي على الأرض".  وأكد الغنوشي كذلك للمجلة تقرّبه من بن علي وتقاربه معه يومها، مصدّقا للشعارات التي تضمنها بيان 7 نوفمبر 1987، مبرزا رفضه لنيل جماعته من شخص بن علي والاستهزاء به.

وفي نفس السياق، أشار في حواره مع برنامج "وفي رواية أخرى" على قناة العربي اللندنية: "لم أعلم بمحاولة الانقلاب الموازية، التي قام بها مجموعة من الأمنيين وضباط الجيش بعيدا عن بن علي، على بورقيبة ولو علمت لرفضتها".

موضّحا أنه خاطب بن علي من داخل سجنه "وخيّرته بين أن نكون جنودا له في حال تطبيق وعوده أو أن نخوض حربا عليه إن مارس نفس سياسات بورقيبة القمعية".

تذبذب الشخصية الإخوانية في ممارسات راشد الغنوشي، بين المجسّد للكاريزما السياسية وسط حركته أو وسط قيادات التنظيم العالمي وبين الباحث عن كاريزما سياسية يختبأ وراءها لتنفيذ ما سطرته جماعة الإخوان من أجندات خاصة في علاقته بجمال عبد الناصر وقيادات حزب البعث السوري والعراقي وعلاقته مع بورقيبة وبن علي، يؤكد أن الحالة تعيش إنفصاما سياسيا واضح المعالم، شخص مرتبك نفسيا ويخشى المواجهة الحادة والعلنية ويخاف الخسارة ، وشخص ثاني يمثّل القائد الحازم والملهم تحت غطاء صنعه لنفسه بكاريزما سياسية ليست له، وقد تبيّن ذلك في علاقته برؤساء الدول التي ساندته ، تركيا وقطر على سبيل المثال

وبخصوص المجتمع التونسي، يرى راشد الغنوشي أن الشعب مجرّد خزان إنتخابي يمنحه التفوّق في عدد نواب البرلمان والتحكّم في تكوين الحكومات، بإعلانه عدم دعم حزبه لمشروع "قانون إقصاء التجمعيين.. أو قيادات وأنصار نظام بن علي"، هذا المشروع الذي أشرف على إعداده نواب من حزبي المؤتمر والنهضة بالمجلس التأسيسي، وذلك بعد اجتماعات سرية بينه ورئيس حزب نداء تونس آنذاك الباجي قائد السبسي. فبعد الشروع فعليا في مناقشة هذا القانون، أعلن الغنوشي في تصريح إذاعي عن عدم دعم حزبه لهذا القانون الذي اعتبره إقصائيا.

كانت غاية راشد الغنوشي ليس الدفاع عن حق الدساترة والتجمعيين في الحياة السياسية وإنما كان طريقا لإستغلالهم مستقبلا كورقة رابحة يضمّها إلى أجندته، وسيكون رفض القانون هو الجسر والباب الذي سيعبر منه جزء من "الدساترة أتباع بورقيبة" و"التجمّعيين أتباع بن علي" أو كلهم إلى "حزب الميعاد" أو حركة النهضة الذي جاء لينقذهم من تيه دام سنوات بعد الثورة، ويكون الغنوشي "قائد المرحلة".

وفيما يخص مسألة البطالة وتشغيل العاطلين عن العمل، إختارت حركة النهضة وزارة التشغيل، وقد أكد راشد الغنوشي لموقع "الجمهورية"، 14 فيفري 2015 ، أن "حزبه اختار حقيبة التشغيل لإيمانه بأن هذا الملف هو من أبرز أولويات المرحلة الحالية"، مدركا أن مسألة البطالة هي أساس ربح القوة الصامتة التي رفضت الذهاب للإنتخابات والإدلاء بأصواتها من كل فئات المجتمع الباحثين عن عمل ومورد رزق، وقد تبيّن ذلك خلال كلمته التي ألقاها في مسيرة لأنصار الحركة، 27 فيفري 2021 ، تعليقا على إحتجاجات أصحاب شهادات الدكتوراه العاطلين عن العمل قائلا:" كان يجب على الدكاترة العاطلين عن العمل ، و الذين طالت بطالتهم عشرة سنوات ، تعلّم "صنعة أخرى"، أو مهنة أخرى".

تحت عنوان تونس للجميع والحرية والديمقراطية وتحقيق الثورة لمطالب الشعب، لم يكن للغنوشي أي ثقة في شعب صفّق ومدح بورقيبة وبن علي إلا أنصاره القدامى، مما دفعه لإتباع أسلوب التوظيف  البراغماتي والانتهازي لمطالب هذا الشعب بعد الثورة ومحاولة إستقطاب أكبر عدد منه لصالحه، وتلك هي بعض من الشخصية الإخوانية التي تبطن الغاية ولها كل الحق في إستغلال أي ظرف يكون لصالحها.  

أما عن الدولة، فقد أفصح في البداية عن نيته بأن دستورها مصدره الشريعة الإسلامية، وتراجع عن ذلك بعد تصاعد الاحتجاجات ضدّ ذلك. وقد وصف الجيش الوطني التونسي في إحدى لقاءاته التلفزية قبل الثورة بأنه "مجرّد إحتياطي للبوليس، وعندما يعجز البوليس المهام الأكثر قذارة تعطى للجيش." وفي شريط فيديو نادر  ظهر بعد الثورة يقول " إن المؤسستين العسكرية والأمنية في تونس غير مضمونتين".

كشف راشد الغنوشي عن بعض ما يخفيه، فقد سبق له الإشادة بحيادية المؤسسة العسكرية التونسية، مما يفضي إلى غايته وهي وضع المؤسستين تحت سيطرته وسيطرة الحركة وإخضاع كوادرها . 

وفي موضع موازي من الفيديو المسجّل، قال "صحيح أن الفئات العلمانية في هذه البلاد لم تحصل على الاغلبية" في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي أجريت في أكتوبر 2011 وفازت فيها حركة النهضة، لكن "الاعلام والاقتصاد والادارة التونسية بيدهم وبيدهم الجيش.. أركان الدولة مازالت بيدهم".

رغم كرهه الخفي للفكر العلماني، يقول الغنوشي في شهادته لمجلة "سياسات عربية": كنت أقول لإخواني: "لا يمكنكم أن تحكموا مجتمعا رغما عن نخبته إلا في حالة واحدة، وهي أن تمارسوا حجما هائلا من العنف، وهذا من شأنه أن يشوّه المشروع الاسلامي،" مضيفا " لا يمكننا أن نصنع نخبة موالية عبر اللجوء إلى القمع والعنف".. "ويجب أن تكون الأغلبية مدعومة بنخبة فاعلة". إحالة واضحة أنه يريد جمع أكثر النخبة الفاعلين في كل المجالات عبر إغرائهم بالمناصب والأموال الطائلة لتقديم المشروع الاخواني على لسان أكثر المثقفين شعبية وحبّا لدى الناس .

وعن السلفيين فقد كشف الشريط قوله: "الآن، ليس لنا جامع فقط بل لدينا وزارة الشؤون الدينية، .. عندنا الدولة .. واقول للشباب السلفي، المساجد بايدينا درسوا فيها متى شئتم واستدعوا الدعاة من كل مكان، المفروض أن نملا البلاد بالجمعيات الدينية، وننشئ المدارس القرآنية في كل مكان لأن الناس في تونس لاتزال جاهلة بالاسلام". ليكفر بهذا القول في شهادته للمجلة " أظن أنهم النازلة الكبرى التي حلّت بالمجتمع التونسي، فنحن كنا ننشط في البداية، ولم يكن هؤلاء موجودين، ولكنهم ظهروا في غيابنا."

تضارب الأقوال والمواقف يحيل إلى وجه آخر دفين داخل شخص راشد الغنوشي الذي تعتبره قيادات النهضة حكيم الحركة ومخلّصها، وفي الحقيقة مواقف تدل على أن المبدأ في ذلك أن لا تصدق في القول الا مع نفسك ويجوز الكذب درءا للمصائب، فالمنفصم سياسيا لا مواقف له صادقة.

وعن الديمقراطية التي يسعى لإستغلالها راشد الغنوشي كورقة رابحة داخل المشهد السياسي العام، في 17 سبتمبر 2020، وقّع نحو 100 قيادي في حركة النهضة ، على عريضة بعنوان "مستقبل النهضة بين مخاطر التمديد وفرص التداول"، طالبوا فيها رئيس الحركة راشد الغنوشي بعدم الترشح لرئاسة الحركة في المؤتمر الحادي عشر المزمع عقده نهاية 2020، ولكن تم إسقاط هذه العريضة بعد إعلان الغنوشي تأجيل المؤتمر بسبب جائحة كورونا ولكن الحقيقة كان التأجيل بسبب مناورات الغنوشي وحساباته الشخصية للبقاء في منصبه التي جعلت المشهد التنظيمي داخل هذه الحركة يقترب من حافة الانفجار.

وليتخلص من أعباء العمل الدعوي لحركة النهضة وإقصاء عديد المهمات داخلها وعديد الأشخاص، كتب في مقال نشرته دورية "فورين أفيرز"، "فقد انتقل الحزب مبتعدا عن جذوره بصفته حزبا إسلاميا، وتبنى وبشكل كامل هوية جديدة ليكون حزبا للمسلمين الديمقراطيين." أي أن الحركة أصبحت بالنسبة له مجرد مطية سياسية لا غير ليضمن بقاءه وتفرّده بالقيادة رغم تناقض قول "المسلمين الديمقراطيين" مع نرجسيتيه وحب السيطرة لديه ومع مفهوم الديمقراطية عامة.

تشدّق راشد الغنوشي كثيرا، بمفهوم الوطنية ومؤسسات الدولة والشرعية والمشروعية ، ولكن حين أول هزيمة له أمام رئيس الجمهورية بعد تفعيل الفصل 80 من الدستور سارع إلى اللجوء إلى أعوانه وأصدقائه في الخارج للتأثير على تونس والمح للعنف والإرهاب مصيرا للشعب وأوصى سرا بالمطالبة بإنزال عقوبات إقتصادية على الدولة، ثم تراجع بعد أن خسر أغلب أصدقائه سياسيا، فالمصالح بين الدول لا تقودها علاقات شخصية.  

شخصية راشد الغنوشي  جمعت بين الفكر السياسي متعدد الأوجه والذي لا يستقر له أي فكر واضح، بين الشخصية المتسلطة والتضحية بأصدقائه والعمل من أجل الجماعة، بين غاية بناء دولة والسعي لهدم أسسها، بين خدمة الشعب وتوظيفه لغاياته، بين العداء للمخالفين له والتحالف معهم، بين نضاله من أجل الديمقراطية وكرهه لمن يمارسها. ولعل ذلك قليل من بحر الانفصام السياسي للشخصية الإخوانية.