حميد زناز

لو كانت مسارات الحياة المضطربة  أو الظروف الاجتماعية الصعبة أو المشاكل النفسية أو الايديولوجية الاصولية هي العامل الحاسم في اعتناق الجهاد المسلح، لكان عدد الجهاديين  كبيرا جدا و ربما بالملايين. فما هي إذا الدوافع النفسية التي تجعل شابا ما ينخرط في الجهاد المسلح؟ ما العامل الحاسم الذي  يؤدي إلى اتخاذ مثل هذا القرار الخطير ؟

مواصلة لأبحاثه السابقة حول الاسلاموية و انحرافاتها، أعاد المحلل النفساني التونسي المقيم بفرنسا فتحي بن سلامة النظر في المقاربات المألوفة للظاهرة. لقد أماط اللثام عن الدوامة المشتركة بين هؤلاء المنخرطين في المعركة الجهادية. يتحدث عن تغيّر انقلابي يدل على وجود دافع ذاتي، يطلق عليه السيد فتحي بن سلامة: "القفزة الملحمية ". و هو عنوان كتابه الصادر أخيرا  بباريس الذي   يناقش فيه محدودية عبارة "المرور الى الفعل" المتداولة في الاعلام للإشارة الى تلك اللحظة التي يتحول فيها الاصولي أو غير الاصولي من مرحلة الايمان الى الفعل. ويمكن أن تكون القفزة الملحمية موجهة لتحقيق أهداف أخرى أولها التحرر الذاتي. يشير صاحب الكتاب الى عدم صلاحية التفسيرات التبسيطية المقدمة عموما في شرح و فهم ذلك الجنون العنفي الذي يصيب الكثير من الشبان. كما يرى أنه من السذاجة الاعتقاد بانتهاء الارهاب والجهاد والفعل العدواني البشري عموما بسهولة ويحاول أن يجدد فهم تلك الظواهر

يجري مؤسس "مركز دراسات أنواع التطرف وعلاجاتها" منذ عشرين عاما بحوثا هامة  عن أزمة "الذاتيات" في العالم العربي الاسلامي. في كتابه الجديد يتطرق إلى الدافع النفسي الذي يقود الشخص ليصبح شخصا آخر غيره الى درجة تحويل كل وجوده نحو الانضمام الى ملحمة مجيدة، قفزة ملحمية ذات طبيعة اجرامية  وقاتلة. وبدل أن يلجأ السيد فتحي بن سلامة الى الانخراط في النقاش الدائر دائما حول أسباب التطرف الاسلاموي الاجتماعية والايديولوجية، فهو يعتبر أن كل جهادي حالة خاصة. فلا يوجد "تعريف نموذجي" للجهادي المعاصر حتى وان كنا قادرين على تصور  بعض السمات المشتركة بين حكايات الجهاديين الفريدة،  فمثلا ففي كل مرة يذهب الجهادي الى الاضرار بنفسه حتى الموت في عبادة رب بربري والى حد تغيير حتى هويته. يسأل فتحي بن سلامة سؤالا ملحا على ضوء التحليل النفسي: ما الذي يدور في أذهان الذين اختاروا البدء في ممارسة الجهاد الحربي؟        

لا يفسر التحليل النفسي الافعال، كما يقول فتحي بن سلامة ذاته، بل يحاول تسليط الضوء على الكيفية التي وصل شخص ما عن طريقها للقيام  بهذا الفعل او ذاك. ووفقا لنظرية سيغموند فرويد، فالانتقال الى الفعل هو لحظة غياب عن النفس وعدم فهم بينما يرى فتحي بن سلامة أن العكس هو الحاصل بالنسبة لأولئك الذين دخلوا الى المعركة، فيوجد لديهم فائض في المعنى وعبور طوعي متعمد لضفة العنف يستمد قوته من تناغم بين السردية والفعل. لذا فإن قرارهم هو بالأحرى مجرد انقلاب او "قفزة" والكلمة تذكر بـــ "القفزة الى المجهول"، تلك العبارة الجميلة التي كان يستعملها الفيلسوف كيركوغارد متحدثا عن الدين.  

ولكن لما يقترح بن سلامة تعبير "القفزة الملحمية" فهو ليشير الى تلك اللحظة التي تتحول فيها سردية ما الى فعل، كما هو الحال في الملاحم التي يحقق فيها البطل قدره ومجده حتى و لو ضحى بسعادته وحياته وحياة الآخرين. تتطلب المهمة التي يشعر المتطرفون انهم  خلقوا للقيام بها قطيعة كثيرا  ما تتمظهر على المستوى الرمزي بتغيير الاسم الذي يمنحهم دفعا جديدا في نفس الوقت الذي يسمح لهم بالتخلص من الماضي، المخزي في أحيان كثيرة والشعور بالظلم او الإحباط. ولا يحتاج هؤلاء حتى الى القرآن من أجل ذلك. يكفيهم نسج سيناريو صغير في اذهانهم يتخيلون انفسهم فيه ابطالا مثلما يقرأ أحدنا كتابا ويتخيل نفسه هو بطل القصة. فالجهاديون ابطال اسطورة شخصية حسب فتحي بن سلامة.