نتفق بأن العالم لا ينظر الي مصالح دولتنا بقدر ما ينظر الي المطامح والمصالح التي سيحققها من خلالنا، كما نتفق أيضاً، بأننا لم نعد نملك كامل السيطرة علي مواردنا ومصادر دخلنا، لم يقتصر الأمر علي هذا بل تعدي، واصبحت جل القرارات يتم صنعها من خلال دوائر تعد بعيدة عن السيادة وشرعية الدولة. لقد أصبحنا ننتظر رسائل المبعوث الاممي وتوجيهاته واوامره احياناً ليرينا ويدلنا علي خارطة بعد الأخرى لطريق لم يعد خيوطه في أيدينا، ولم تعد ملامحه واضحة ومعلنة. ونتيجة لذلك تم تغذية الصراع بكافة الطرق والأشكال، لتأمين مصالح غربية، والتي تخالفت واختلفت ارائها في تحقيق مصالح بينية، الأمر الذي انعكس علي شؤون كثيرة وأهمها الشأن العسكري الأمني، والشأن الاقتصادي. نعم، لقد اقر المجتمع الدولي السلطة التشريعية لمجلس النواب الليبي، ولكن لم تعد قراراتها ملزمة، ومن ثم أصبح القرار خاضع الي ما يتم تقريره في كواليس المسرح الخلفي واروقة مظلمة.يدخلنا صراع الامم والمجتمع الدولي في مرحلة الفأر المجمد، الي حين نفاذ الصبر والقدرة، ومن ثم ينتقل بنا الي مايريد وفق مصالحه واستراتيجياته وبعد تسوية خلافات أخري علي حسابنا.

المجلس الرئاسي وبراثن الأمم المتحدة،

يجدر بنا الإشارة للتنويه والتذكير الي أن الأمم المتحدة قد أصرت ودعمت ما يعرف بـــ"المجلس الرئاسي" وفق إتفاق الصخيرات والذي لم تكتمل خطواته لو سلمنا جدلاً بقانونية انشائه، فيجب أن نسلم أيضاً الي انتهاء فترة صلاحية اعماله، وتفسخ أعضائه.

لم يكتف المجتمع الدولي المصادقة الدائمة -علي ما يبدو- لهذا المجلس، ولم ينتهي الأمر بعد، بل تجاوزت صلاحياته لإنشاء حكومة ما يعرف بالوفاق وفق اليات لم تخضع لإعتماد او مصادقة مجلس النواب الليبي في خرق واضح للإعلان الدستوري المؤقت، ناهيك عن انتهاك سيادة الدولة الليبية. لقد صار الرئيس الحالي للمجلس الرئاسي المدعوم من قبل الأمم المتحدة، يرأس الحكومة الأممية "حكومة الوفاق "غير الشرعية"، وهو خرق واضح لميزان ومبدأ الفصل بين السلطات وفق ميثاق الأمم المتحدة ذاتها، حيث أصبح الإنقسام المؤسسي التشريعي قائم، وبالأخص في ظاهرة مستحدثة "شرق – غرب"، كما بدأت ملامح الإنقسام تلوح من خلال الصراعات العسكرية مٌشكلة وحدات سياسية خارج الأطر والمناهج الديمقراطية الشرعية، حيث لا توجد سلطة عامة متفق عليها، وهو ما أدي الي تعميق الصراع الدستوري وأضاف الكثير من أزمات متتالية للملف الليبي.

غير أن تبدل موازين اللعبة الدولية وانعكاساتها علي ليبيا "بوادر انتهاء التحالفات المرنة والمؤقتة" وسيطرة الجيش الليبي علي سبها وجيرانها، وحقل الشرارة النفطي، ستحول أنظار العالم الداعمللمجلس الرئاسيالي مراجعات عديدة، وأهمها اليقين بأن لم يعد هذا الخيار الرئاسي الفرس القادر علي ايصال راكبيه لـ بلوغ الهدف وتحقيقه.

قرارات الأمم المتحدة تقود الي اقتصاد مجهول،

بالإمكان أن نجمل أهم التحديات التي واجهها الاقتصاد الليبي جراء التدخل الدولي بالشأن المحلي (الاقتصادي) وذلك من خلال المؤسسة المصرفية الرئيسية بالدولة الليبية "مصرف ليبيا المركزي"، وما يرتبط بها من مؤسسات كبري كـــــ"المؤسسة الليبية للنفط والمؤسسة الليبية للإستثمار".

ومن أهم تلك المسارات ما يلـــي:-

الأرصدة الليبية المجمدة،

قرارات الأمم المتحدة بشأن تجميد ارصدة ليبية مازال مستمراً، حيث تقدر قيمتها بــ 168 مليار دولار أمريكي عام 2011 (سائلة وودائع وسندات)، وموزعة معظمها بين المانيا، وبريطانيا، وفرنسا ودول غربية أخري.  وهي ودائع تابعة لمصرف ليبيا المركزي والشركات الكبرى الليبية، كالمؤسسة الليبية للإستثمار وغيرها، الأمر الذي سبب مزيداً من الخسائر بسبب "االإنشطار المؤسسي والتجميد الأممي" حيث أن هذه القيمة لا تعبر عن الواقع الفعلي للمبالغ المجمدة لدي الغرب حالياً والتي بدأت تضمحل وتتناقص ويتم التلاعب بكافة عوائدها.

نعود بالأحداث الى سبب تجميد الأصول الليبية في عدد من الدول الغربية فنجد أن القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 8/3/2011 المسجل برقم 1973 يحتوي على نقاط عدة بفرض عقوبات على النظام الليبي بعد اتهامه بقمع حراك شعبي في منتصف فبراير من بينها تجميد الأصول الليبية، وهو قرار شمل كل الأصول المالية والأموال والموارد الاقتصادية التي تملكها الدولة الليبية بصورة مباشرة أو غير مباشرة في أراضي الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، وقد طالب أيضا بتجميد أصول المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي بسبب صلاتهما بالنظام السابق. تبع سالف الذكر قرار آخر مسجل برقم2009بتاريخ16أيلول/ سبتمبر2011، يعدد الكثير من القضايا بالشأن الليبي، ويعبر أيضا عن محاور هامة منها؛ انتشار الأسلحة واثره علي تهديد السلم والأمن الدوليين، وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، والتأكيد علي حظر الأسلحة، وتجميد الأصول الليبية.

مرت 7 سنوات على سقوط النظام في 23 من أكتوبر 2011 وقد زالت معظم العقوبات المفروضة على ليبيا وتم إستثناء استيراد السلاح والمعدات العسكرية، ورغم هذا، استمر تجميد الأصول الليبية بالدول الأعضاء بالأمم المتحدة لأسباب أعزي معظمها الى عدم الاستقرار السياسي في البلاد وبقي الغموض يلف مصير الأصول المالية والموارد الاقتصادية التي كان تملكها ليبيا في دول كثيرة وظل ملف الأصول الليبية عالقا في بحر السياسة بين مد وجزر الأطراف السياسية المختلفة في ليبيا كل حسب توظيفها للموضوع لخدمة مصالحها.

وفي آخر تطورات الملف الليبي المالي لتلك الأموال المجمدة، فقد تم تمديد حالة الطوارئ والعقوبات التي كان قد فرضها الرئيس الأمريكي الأسبق "باراك أوباما" في عام 2011 والتي من المتفرض أن تنتهي في 25 فبراير 2018، معللا سبب التمديد بمحاولة منع تحويل الأصول أو غيرها الى المستفيدين السابقين وشركائهم.

الأموال المنهوبة والمهربة والمخفية،

تثير الأموال الليبية المهربة والمخفية قلق كبير، وتوضح أيضا عدم قدرة الأمم المتحدة في الحفاظ علي تلك الأموال الليبية ومتابعتها، كما تبين بعض المصادر بأن الأموال التي تم تهريبها إبان الثورة الليبية ضخمة تقدر قيمتها (تقديرياً) وفق الكثير من المصادر الرصينة بـــ "200" مليار دولار أمريكي، (نقدا وذهباً).

بالرغم من قرارات التجميد للأصول الليبية بقرارات أممية، الا أن هناك الكثير من التلاعبات الدولية والخروقات في إستخدام تلك الأصول التي يفترض تجميدها لصالح الدولة الليبية ولصالح المواطن الليبي. لقد ثبت مؤخراً (رغم تحذير أجهزة الدولة الليبية منذ العام 2015) بما فيها التقرير السنوي لديوان المحاسبة الليبي لعام "2015 - 2016"، والذي أوضح خسائر أجهزة الدولة بالخارج، والتلاعب بشأن المؤسسة الليبية للإستثمار، الا ان ما استجد مؤخراً يعبر عن الفضيحة الدولية التي طالت أصول أموال ليبية وفوائدها بــ"بلجيكا"، والبالغة (5) مليار يورو علي أقل تقدير وهو ما كشف عنه تحقيق النائب العام البلجيكي موجها اتهامه الي وزير خارجية بروكسل. لقد مولت تلك الأموال علي حسب ما جاء بالتقرير، الجماعات المتطرفة والمسلحة، وتغذية الحرب الأهلية.

المؤسسة الليبية للإستثمار،

بموجب الفقرة (22) من القرار 1973 لسنة 2011 أدرجت المؤسسة الليبية للإستثمار ومحفظة ليبيا افريقيا للإستثمار (كما أشار اليها القرار، مع العلم بأن محفظة ليبيا أفريقيا للإستثمار هي مؤسسة تابعة للمؤسسة الليبية للإستثمار؛ وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة علي هذا القرار) ضمن الجهات الخاضعة لتدابير تجميد الأصول المنصوص عليها في الفقرتين 17 و 19 والفقرات 19 الي 21 من القرار المذكور. كما تنص الفقرة 15 (أ) من القرار ذاته علي استمرار التجميد للأصول والموارد الاقتصادية لهذه المؤسسة. وبهذا، يستمر التجميد علي أصول المؤسسة الليبية للإستثمار شاملا الأصول والأرباح.

لقد أثارت المؤسسة الليبية للإستثمار العديد من النقاط الهامة التي تعرضت لها من خلال العقوبات الأممية المفروضة وتجميد أصولها، وفق تقرير لجنة الخبراء بالأمم المتحدة بتاريخ 5 سبتمبر 2018، وثيقة رقم S/2018/812 وكان من ضمن تلك النقاط؛ الإشارة الي حظر الأمم المتحدة المؤسسة من إدارة أموالها، ومنعها من إعادة استثمار الإيرادات المستحقة، كما لا يمكنها أن تضع الأصول في أدوات تحقق عائدات تنافسية، الأمر الذي عقّد الحصول علي تراخيص إدارة أموال المؤسسة واعتباره مستحيلاً، مما اثر علي أرباح تلك الشركات وعوائدها وسلامة ادارتها. 

عراقيل تواجه السلطة التشريعية،

قام مجلس النواب الليبي بإصدار قرارات عديدة ومنها إقالة محافظ ليبيا المركزي عام 2014، وتحويل المقر الرئيسي لمصرف ليبيا المركزي من طرابلس الي مدينة البيضاء وتعيين نائب المحافظ بديلاً، وذلك من اجل الوصول الي استقرار اقتصادي ومالي، في محاولة لتحسين الأوضاع المعيشية للمواطن الليبي وصيانة الدخل القومي وشفافية وعدالة توزيع الثروة بين الاقاليم.

وقد اقر حكم المحكمة الصادر بتاريخ 19/1/2015، برد الطعن المقدم من المحافظ المعزول في قرار البرلمان وتعيين نائبه"، تأسيساً علي: أولاً: كون قرار الإقالة صادراَ عن السلطة التشريعية (مجلس النواب)، وثانياً: ان القرارات التشريعية في البلاد لا تدخل ضمن القرارات الإدارية التي يجوز الطعن عليها بالإلغاء.

ورغم  القرارات الصادرة عن مجلس النواب الليبي، كتلك المتعلقة بشؤون الرقابة المالية (ديوان المحاسبة) والإدارية (الهيئة العامة للرقابة) وغيرها، ورغم تأكيد رئيس مجلس النواب الليبي "عقيله صالح" بأن قرار تعيين محافظ جديد هو شأن محلي وإختصاص أصيل لمجلس النواب،  الا أن الأمم المتحدة لم تعترف بأي تغييرات ولم تعر أي إهتمام بها، ولم تقرها أو تتعامل معها، عكسا لذلك، بل دعمت بقاء المحافظ الأسبق لمصرف ليبيا المركزي ودعمت عدم انتقال أو شرعية المؤسسات الحديثة باعتبارها "مؤسسات موازية" واعاقت نقلها من مدينة طرابلس الي بنغازي والبيضاء، واصرت علي التعامل مع  الأطراف غير شرعية برغم ما تسبب وجودهم في اضرار مباشر بالوضع الإنساني الليبي، حيث وصف التقرير السنوي الصادر عن المنظمة الدولية لمكافحة الفساد  في دول العالم 2018 كانت ليبيا في ذيل الترتيب، حيث وُضِعت في ترتيب 170 من أصل 176 دولة علي المستوي العالمي متساوية مع السودان واليمن. كما أن نسب الفساد والتي أصبحت مسؤولة عن فقر الدولة، زادت بمعدلات غير مسبوقة، حيث أكدت منظمة الشفافية الدولية، أن ليبيا تحتل المركز التاسع من بين 180 أمة.

وبنفس المنهج والمسار، تم رفض كافة التعيينات والإجراءات المحلية الوطنية الصادرة سواء من الحكومة المؤقتة (مجلس الأمناء) المنبثقة من مجلس النواب الليبي، او مباشرة من مجلس النواب الليبي، بشأن المؤسسة الوطنية للنفط، والتي تملك وتسيطر علي مواني التصدير، غير أن العوائد النفطية ترجع بصفة غير شرعية للمؤسسة "المقالة" بطرابلس، التي تؤيدها الأمم المتحدة، الأمر الذي سبب ارباكا كبيرا في شرعية العقود ومآل الإيرادات وطرق الصرف، وأضعف منظومة الرقابة، والشفافية. لقد اسهمت التدخلات الدولية غير العادلة، في معاناة المواطن اليومية للحصول علي السيولة النقدية، كما شجعت ظواهر أخري كـــ"التهريب و الجريمة و الإتجار بالمخدرات و الهجرة غير القانونية".

وتستمر ليبيا في مواجهة اللعنة رغم ثراء الموارد ورغم حيازتها على أعلي مخزونات النفط في إفريقيا.

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة