تمثل منطقة البحر الأبيض المتوسط ودولها ثاني أهم بقعة جيوستراتيجية في السياسة الخارجية الروسية بعد منطقة أوراسيا. وقد سعت روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير للتوسع في دول شمال إفريقيا لإدراكها أن أمريكا في عهد الرئيسين السابقين باراك اوباما ودونالد ترامب لم تضع  منطقة شمال إفريقيا من الأولويات ضمن جدول أعمال سياساتها الخارجية.  

نقطة ضعف كانت البداية للكرملين وللرئيس فلاديمير بوتين للعودة بخارطة طريق اتسمت بالبراغماتية وذلك لمواجهة الفوضى الكبرى التي تعيشها دول شمال إفريقيا بعد ما يسمى الربيع العربي، ومحاربة الإرهاب لمنع وصوله لمناطق النفوذ الحيوية الروسية، ولكن ثورات الربيع العربي التي شهدتها دول شمال إفريقيا وصعود الاسلامين الى المشهد السياسي، وضع أربك السياسة الخارجية الروسية وأجبر الحكومة الروسية على إلتزام الصمت وإعادة تصفيف اوراق أجندتها الخاصة 

 لقيت الثورة التونسية تأييداً روسيا في بداية شعلتها، لكن اختارت موسكو تغيير موقفها خوفا من تهديد التطرف بعد صعود الاسلاميين الى الحكم، رغم تأكيدها باستمرار رفض تهميش دورها الاقليمي في المنطقة وفق ما جاء على لسان فلاديمير بوتين ، سنة 2012، في تصريح له بأن: "روسيا لن تسمح بتخطي مصالحها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".

سعي روسي حثيث لدعم العلاقات الديبلوماسية مع تونس تجلى في تأسيس مجموعة الصداقة البرلمانية التونسية الروسية، مارس 2021 برئاسة حسونة الناصفي النائب بالبرلمان عن كتلة الاصلاح الوطني، حيث ستعمل هذه المجموعة على بحث مختلف الملفات المتصلة بالعلاقات الثنائية وبالتعاون المشترك، وتحديد أولويات مجالات التعاون لتحقيق الفائدة المرجوة. وخاصة مجالات التكنولوجيا والتبادل الاقتصادي.

تحرك ديبلوماسي روسي تونسي سبقته قبل ذلك ،سنة2014 ، زيارة أولى لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زيارة إلى تونس تم خلالها التوقيع على مذكرات تفاهم في قطاعات السياحة، حيث سجل عدد السياح الروس ارتفاعا ليصل الى أكثر من 600 ألف سائح سنة 2016، كما بلغت المبادلات التجارية بين البلدين سقف 1.2 مليار دولار إلى جانب اتفاقيات في مجال الطاقة النووية السلمية وحماية البيئة. 

وأمام الحضور الفرنسي والأمريكي الباهت الذي فسح المجال أمام روسيا لتقديم برنامج تعاون يشمل مشاريع كبرى في مجالات مختلفة وذلك لغاية ضم تونس ضمن تشكيلة ما يشبه الهلال الروسي في منطقة المتوسط، حاولت روسيا في خطوة حذرة ثانية إرسال وزير خارجيتها سرغاي لافروف في زيارة إلى تونس، جانفي 2019 ، الذي أكد خلال لقائه رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي، الأهمية التي توليها بلاده لمزيد الارتقاء بالتعاون الثنائي إلى مستوى الإمكانيات الهامة للبلدين لاسيما في مجالات التجارة والسياحة والتعليم، وأن روسيا ستعمل على حثّ المستثمرين الروس على الاستفادة مما توفره تونس كوجهة استثمارية واعدة في المنطقة، منوّها بدور تونس المحوري في ضمان أمن واستقرار المنطقة. 

برنامج تعاون لم تبرز معالمه الواضحة الا بعد ان وافقت وكالة الفضاء الروسية سنة 2021، على إرسال القمر الصناعي التونسي الى الفضاء والذي أشرفت على تصنيعه شركة "تلنات" الخاصة لرجل الأعمال محمد فريخة، سبقه مفاوضات لتوقيع اتفاقيات مشتركة لاعتماد الروبل الروسي والدينار التونسي في المبادلات الثنائية، وفتح خط بحري مباشر بين البلدين، مما يكثف المبادلات التجارية وتدفق السياح.

نقاط مهمة وناجحة سجلتها روسيا في تطوير علاقتها مع تونس، رغم الضربة الموجعة التي تلقتها العلاقات الروسية التونسية حين تم الكشف عن شبكة تجسس روسية، هذه الشبكة عملت طيلة خمس سنوات، 2010 – 2015 ،على جمع معلومات ووثائق حول مواطنين تونسيين وأجانب من أقسام الحالة المدنية. وهي محاولة من خصوم روسيا في المنطقة، فرنسا وأمريكا، لقصف أي خطوة لها في التغلغل داخل الدولة التونسية.

تحاول موسكو تفعيل اتفاقياتها القديمةمنذ حكومة الرئيس الراحل  معمر القذافي كإحدى نقاط أجندتها الجديدة الخاصة بالمنطقة وبليبيا خاصة وذلك لإعادة بسط نفوذها على الدولة الحليفة لها منذ الحرب الباردة، استثمارات روسية في ليبيا بلغت خلال عهد القذافي سقف 15 مليار دولار، والتي تركزت بوجه الخصوص في قطاع الطاقة، وبناء السكك الحديدية. وذلك سعيا منها للمحافظة على مصالحها الحيوية القديمة، بما فيها التجارية والاستثمارية في حقلي الطاقة والبنى التحتية وإتمام صفقة التسلح البالغ قدرها 4 مليارات دولار .

إسقاط نظام القذافي، كان بمثابة عملية بتر موجعة لأحد أجنحة روسيا في شمال إفريقيا، باعتبار ليبيا إحدى الدولتين بعد الجزائر منطقة نفوذ اقتصادية وعسكرية أساسية لها، ولهذا وفي خضم التوتر العسكري والسياسي وتشرذم الصراع داخل ليبيا، سعت روسيا وبوساطة مصرية إلى الوقوف الى جانب القائد الجديد، المشير خليفة حفتر المناهض لصعود الاسلاميين لسدة الحكم، بعد إبداء رغبته في استمالة الدعم الروسي في معارك شرق ليبيا.

دعم لوجيستي وعسكري روسي لحفتر، ودور سياسي برز في التوسط بين طرفي الصراع الليبي، كان الهدف الرئيسي من وراءه الحصول على بعض الامتيازات النفطية في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط، إضافة إلى وضع قدمها على مرفأ طبرق، استكمالًا لهدفها الاستراتيجي وهو بسط النفوذ في  المياه الدافئة، و دعم وجود شركاتها الاستثمارية لمنافسة نظيراتها الأوروبية، والتنقيب عن حقول النفط والغاز، كما تسعى موسكو سرا لتحقيق هدفها الجيوسياسي الهام، بمدّ نفوذها على طول الضفة الجنوبية للمتوسط، لتضييق الخناق على دول الاتحاد الأوروبي.

رغم محاولتها الظهور بموقف محايد من طرفي النزاع، سعت روسيا لاستثمار العلاقات التاريخية بين البلدين كصديقين قديمين بعد ان سنحت لها الفرصة نتيجة غياب دور أمريكي فاعل وضعف في الموقف الأوروبي، فقامت بدعم المشير حفتر"   بطباعة المال والنقل الجوي للعسكريين الجرحى وعلاجهم في موسكو، بالإضافة إلى إرسال مرتزقة روس للقتال إلى جانب قواته.

وقد أكدت استضافة موسكو للمباحثات، أفريل2021 ، بين رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد دبيبة، تصميم روسيا على إيجاد حلول لاتفاقيات الاستثمار السابقة والمقدرة بآلاف المليارات من الدولارات في ليبيا، الى جانب دعم التواجد السياسي والعسكري الروسي لحماية هذه الاستثمارات بحجة ان الحكومة الحالية مجرد توافق سياسي غير مضمون، وان وقف إطلاق النار ليس نهاية مؤكدة للحرب أو للصراع القائم.

تشير التحولات السياسية في دول شمال إفريقيا في السنوات العشر الأخيرة إلى تغير واضح في ملامح السياسات الدولية للمنطقة، وتعتقد موسكو أن المتغيرات الأخيرة أدت إلى تقويض نفوذها في المنطقة، وعلى رأسها الجزائر الحليفة السابقة منذ فترة الحرب الباردة.

تحولات قطعت الطريق أمام سعي روسيا للتفرد بأن تكون صاحبة اليد العليا والوحيدة في توريد السلاح لدول شمال إفريقيا، حيث تعتبر الجزائر المستورد الأكبر في المنطقة للسلاح الروسي، بتوقيعها في عهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة على سلسلة من الاتفاقيات على رأسها صفقة الأسلحة ، بقيمة 7.5 مليار دولار، مقابل إلغاء ديون الجزائر البالغة 4.7 مليار دولار. 

وقد تم بين عامي 2014-2018 تقدير بما نسبته 66% من الأسلحة الروسية التي اشترتها الجزائر ، وخلال شهر جويلية 2018  كان للجزائر نصف مبيعات الأسلحة الروسية في إفريقيا.

كما سجل التعاون التجاري بين الجزائر وروسيا ارتفاعا من 700 مليون دولار في عام 2007 إلى 4 مليارات دولار في عام 2016، واخذ التعاون العسكري ثلثا مساحة التجارة.

تعاون تجاري تبعه تعاون في مجال الطاقة النووية حيث وقعت الجزائر وروسيا مذكرة تفاهم بين الهيئة الجزائرية للطاقة الذرية (COMENA) ومؤسسة الطاقة الذرية الروسيةROSATOM)) في عام 2017، وأعلنت الأخيرة أن الجزائر تخطط لبناء محطة للطاقة النووية بمفاعل مائي مضغوط سنة 2025، وتسمح هذه الاتفاقية لموسكو بعرض قدراتها العلمية، والأهم من ذلك، تعزيز بصمتها الإقليمية على المدى الطويل.

ولكون روسيا ثالث أكبر مزود للغاز الطبيعي إلى أوروبا، ولرفع حضورها الاقتصادي في الجزائر، فقد حصلت روسيا على عقود للتنقيب عن النفط والغاز تعود لشركة “غاز بروم الروسية.

تعاون روسي جزائري شمل أيضا المجال الأمني والاستخباراتي، من خلال تبادل المعلومات حول الجماعات الإرهابية في جميع دول شمال إفريقيا الى جانب توافق رؤى كلا البلدين منذ أحداث 2011 في المسألتين الليبية والسورية، برز ذلك في مساعي الجزائر المتعددة لتسوية الأزمة الليبية، من باب الوسيط أو داعم للقاءات الفرقاء السياسيين برعاية روسية، وتكررت المحاولات الجزائرية في عامي 2018- و2019، محاولات باءت بالفشل وخيبة أمل روسية بسبب الدور الفاعل والمؤثر لفرنسا وإيطاليا وبريطانيا.

دور روسي متصاعد في المنطقة جعل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في سعي دائم لكشف أسراره وإحراج الحكومة الجزائرية أمام شعبها، جاء ذلك في ما كشفته قناة الحرة الإخبارية على موقعها، بتاريخ 17أفريل2021 ، حول عزم روسيا إنشاء قاعدة عسكرية بمدينة وهران المطلة على البحر وإرسال وفود عسكرية روسية لاستطلاع المكان المناسب، الخبر الذي نفته رسميا القيادات العسكرية الجزائرية، وقد أرجع الموقع السبب إلى أنه رد فعل جزائري على رغبة المغرب في نقل مقر القيادة العسكرية الأميركية بأفريقيا من ألمانيا إلى مدينة الداخلة الصحراوية المحتلة"بالإضافة إلى "غضب القيادات العسكرية الجزائرية ومقتل احد قيادات البوليساريو على يد إسرائيليين بطائرة دون طيار انطلاقا من المغرب، إضافة إلى الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، الموقف الذي رفضته روسيا معتبرة إياه انتهاكا للقانون الدولي ". 

نقاط مهمة ستخدم الأجندة الإستراتيجية الروسية، حماية لحليفتها الجزائر، وتعزيز مكانتها وتواجدها الاقتصادي والعسكري في غرب البحر الأبيض المتوسط، وعدم تضييع الفرص في منطقة تشهد تموجات وتغيرات دائمة وغير مستقرة خاصة مع تواجد دائم لقوى دولية وإقليمية في شمال أفريقيا. 

لم تكن المغرب بعيدة عن هذا التوجه الروسي تجاه شمال افريقيا رغم كونها الحليف الأهم في المنطقة بالنسبة لأمريكا بعد مصر .

وقد عملت موسكو على استغلال حالة القلق المغربي، ودخلت من باب الوساطة في قضية الصحراء، بهدف الدفع بعجلة الاقتصاد مع المغرب ورفع مستوى تمثيلها الاقتصادي والتواجد الاستراتيجي ، بداية من صفقات التسليح، وصولًا إلى تنويع الصادرات والواردات الروسية، حيث شهدت المبادلات التجارية بين البلدين تطورا كبيرا، لتتضاعف 12 مرة بين سنتي 2001 و2010، من نحو 200 مليون دولار إلى أكثر من 2.5 مليار دولار سنويا، مما جعل المغرب شريكا تجاريا كبيرا لروسيا في أفريقيا والعالم العربي.

تطور التعاون الروسي المغربي جاء عقب توقيع اتفاقيات مشتركة خلال زيارة ملك المغرب لروسيا سنة 2016 شملت مواجهة الاٍرهاب ومشاريع الطاقة وفي مجال السياحة الى جانب التعاون الأمني بتطوير التنسيق بين مخابرات البلدين حول كيفية مواجهة الاسلام المتطرف .

وفي خضم مجالات التعاون المشترك، حاولت المغرب استدراج الموقف الروسي لصفّها بخصوص مسألة الصحراء الغربية بعد ضمان موقف الإدارة الأمريكية الايجابي، بعقد اتفاقيات عسكرية مع روسيا لاستيراد غواصة وطائرات مروحية وصواريخ بحرية متطورة، كما أعلنت عن احتضانها منتدى "العالم العربي ـ روسيا 2021". هذا التوجه السياسي المغربي من شأنه أن يوطّد موطأ القدم الروسية في المغرب ضد التواجد الامريكي الفرنسي، ويمنح الفرصة لتنفيذ روسيا خطتها في تشكيل هلال التعاون الدائم مع دول شمال افريقيا.

تهدف الإستراتيجية الروسية المتبعة في شمال إفريقيا اختراق المنطقة بتمتين وجودها الدبلوماسي والاقتصادي والأمني قدر الإمكان مما يتيح للكرملين إحكام قبضته في المنطقة، فهي تتحرك وفق سياسة خارجية تعتمد الفكر العلماني لمخاطبة جميع الأطراف في المنطقة مما يعطيها مرونة في التعامل مع ملفات المنطقة، ثانيا السياسة البراغماتية ذات الأمد البعيد مع الالتزام بعدد قليل من القيود. ثالثاً، رسم أجندة طويلة الأجل لمواجهة الإرهاب الدولي، ورابعا، الحفاظ على النظم السياسية القائمة خدمة لمصالحها وعدم خلط أوراقها مجددا مع البحث عن حلفاء جدد لخدمة مصالحها القومية من جهة أخرى.