~~تدخل مصر أول استحقاق حقيقي في خريطة الطريق التي جرى التوافق عليها بعد 30 يونيو (حزيران) الماضي وإطاحة حكم «الإخوان» بذهاب المصريين مرة أخرى اليوم إلى صناديق الاقتراع للاستفتاء على الدستور الجديد الذي أعدته لجنة الخمسين، وهي خطوة ستكون كل أعين العالم عليها، لكن الأهم هم المصريون أنفسهم، باعتبار أن خطوة إقرار الدستور ستشعر الجميع بأن العجلة تدور في اتجاه بناء مؤسسات الجمهورية الثانية إن جاز التعبير.
لا يشك أحد في الداخل والخارج في نتيجة الاستفتاء؛ فالمؤشرات واضحة من الشارع المصري بأن هناك رغبة شعبية لدى الناخبين في إقراره والمضي في استكمال خريطة الطريق، ومعظم الكتل السياسية، خارج تيار «الإخوان» أعلنت تقريبا موافقتها على التصويت بـ«نعم» على الدستور الجديد، والرهان ليس على النتيجة نفسها، ولكن على نسبة الذين سيذهبون إلى صناديق الاقتراع من بين إجمالي الناخبين كدليل على مزاج الشارع، وحجم التأييد للمرحلة الانتقالية الحالية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه تاريخيا لم تكن الانتخابات أو الاستفتاءات المصرية تسجل نسب حضور كبيرة، لأسباب معروفة في السابق، وارتفعت نسب المشاركة في الاستفتاءات والانتخابات التي جرت بعد 25 يناير (كانون الثاني) 2011، ورغم أهمية المرحلة في تشكيل المستقبل السياسي للبلاد، فإن نسب المشاركة لم تتجاوز الخمسين في المائة، ولذلك فإن هناك رهانا على أن التصويت في الاستفتاء الحالي سيكون أكبر من ذلك بما يعطي تفويضا قويا للمضي في استكمال الطريق.
وقراءة المزاج العام توحي بأنه ستكون هناك مشاركة كبيرة، في ضوء رغبة مجتمعية واضحة في تجاوز تجربة السنوات الثلاث الماضية المليئة بالتقلبات والفوضى، وأجواء عدم اليقين، وقد بدا واضحا من خلال تجربة هذه السنوات أن الغالبية في المجتمع المصري حتى لو كانت لديها انتقادات أو مظالم، فإنها تريد المحافظة على كيان الدولة مع تطوير مؤسساتها، ولا تريد استيراد نماذج مجتمعات ترتع فيها الميليشيات تحت مسميات مختلفة سواء كانت سياسية أو طائفية أو عشائرية، كما أن هناك مؤشرا واضحا للغاية، وهو أن المجتمع نفسه دخل في مواجهة ضد استغلال الدين في السياسة.
وإذا كانت خطوة الاستفتاء وإقرار الدستور تشكل خطوة محورية مهمة في اتجاه استعادة الدولة والمجتمع الأوضاع الطبيعية، والمضي في عملية التحديث على أسس واضحة، فإن ما سيتبع ذلك من خطوات أكثر أهمية، كما سيكون أكثر إثارة للجدل، لكن لا سبيل للعودة إلى الوراء لأن البديل عن المضي إلى الأمام هو الفوضى والرجوع إلى المربع صفر.
ويجب أن يقال إن النخبة السياسية المصرية أظهرت درجة كبيرة من المسؤولية والنضج في التعامل مع عملية الدستور التي لم تكن نقاشاته سهلة حتى جرى التوافق عليه، وهو ما ستحتاجه المرحلة المقبلة التي ستشهد استحقاقين مهمين؛ هما الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ويبدو أنه لا يزال يتعين التوافق على أيهما يسبق الآخر حسب المصلحة العامة.
وقد كانت هذه القوى السياسية بعد 25 يناير معذورة في حالة الارتباك التي سادت بعدها، ولم يكن أحد يتوقعها أو لديه خريطة طريق واضحة، فحدثت أخطاء، ولم تكن هذه القوى جاهزة نظرا لحالة الركود السياسي الطويلة في العقود السابقة، وهو ما أدى إلى أن يقفز إلى صدارة المشهد التيار المنظم سياسيا والقادر على الحشد لصناديق الاقتراع بينما كان الآخرون مشتتين، أو في حالة رومانسية شعاراتية بينما السياسة الحقيقية لها أساليب وأدوات مختلفة.
الآن، هناك رصيد تجربة ثلاث سنوات، ومجتمع أصبحت درجة وعيه وتفاعله مع السياسة أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي فإنه ليس هناك عذر لتكرار الأخطاء التي شابت المرحلة الانتقالية التي سبقت 30 يونيو، سواء في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، أو إصلاح المناخ السياسي، ومحاصرة الخطاب المتطرف أو الداعي للعنف، والعمل على ترسيخ حق الاختلاف السياسي في إطار حضاري، ومهم أيضا أن يكون الخطاب السياسي ومكونه الإعلامي معتمدا على الحقائق، حتى لا يجري رفع درجة التوقعات بشكل غير واقعي. وتوحي المؤشرات بالتفاؤل بأن مصر في طريقها لتجاوز هذه المرحلة، لكن أيضا يجب الإقرار بأن الطريق بعد الاستفتاء ليس سهلا ويحتاج إلى جهد، وعمل جاد.
*نقلاً عن "الشرق الأوسط"