عبد الستار العايدي

بعد فشل نموذج المشروع الاخواني في رسم نظام حكم ينقذ تونس من أزماتها المتعاقبة وضبابية النموذج السياسي الذي يعمل على تأسيسه قيس سعيّد والذي إعتبره البعض مشروع "نظام سياسي ديكتاتوري" وكذلك بعد تجربة سياسية فاشلة قبل الثورة، يعود نجيب الشابي إلى المشهد بعد ان خفت نجمه طيلة سنوات ليطرح مبادرته السياسية الجديدة كأحد الحلول للتشرذم الذي يعيشه واقع تونس السياسي، مبادرة تحت عنوان "إصلاح ما تم تخريبه قبل وبعد 25 جويلية 2021 " وهو ما يتناقض أصلا مع موقف الشابي الذي بادر بالتوجّه أولا إلى الأطراف السياسية التي كانت هي السبب الأول في ما وصل إليه المشهد السياسي وآخرين هم اليوم التحالف التكتيكي المعارض لتوجهات قيس سعيّد وخياراته المستقبلية.

إستنتاج أولي واضح من فحوى هذه المبادرة السياسية هو فشلها في إيجاد مخرج للهوة الحاصلة بين نظام الحكم ومعارضيه لتتأسس في البداية على نفس الخيار السياسي لمخالفي قيس سعيّد باقتراحها بحث السبل للعودة إلى الشرعية الدستورية مما سيسمح بإمكانية طرح مسألة عودة البرلمان في صورته القديمة وعقد جلسة للمصادقة على مخرجات الحوار الوطني دون وجود قيس سعيّد وتزكية حكومة إنقاذ وتنظيم انتخابات، نهاية تسبقها دعوة الشابي إلى بناء "جبهة للخلاص الوطني"، كما تقترح هذه المبادرة إصلاحات إقتصادية وسياسية هي خلاصة لرؤى وقراءات متنوعة للمشهد العام في تونس ولا تطرح أي بديل واقعي من شأنه أن يجمع حوله توافق معظم الأطراف السياسية أو الأغلبية الشعبية لفقدانها الرؤية العملية والارتكاز على نقاط الفشل في السياسات العامة التي عجزت عن تحديد السبيل الناجع للخروج بتونس من مستنقع سياسة "التجربة والخطأ" تحت غطاء الانتقال الديمقراطي والتجربة الديمقراطية التونسية الناشئة. 

وحسب هذه المبادرة، كل ما سبق هو مرتكز أساسي لتشكيل حكومة إنقاذ بدعوى عدم وجود حكومة فعلية وأنّ الحكومة الحالية تصوّر خاص لرئيس الدولة ولا تمتلك أيّ صلاحيات قد تساعدها على رسم سياسات الدولة الحقيقية، وكما يعتبرها أصحاب هذه المبادرة فإنّ حكومة الإنقاذ هي من الأولويات، فالإصلاحات والنهوض بالاقتصاد وتثبيت الاستقرار الاجتماعي التي تضمنتها ورقة نجيب الشابي   لن تتحقق دون حكومة تتحلى بالكفاءة والمصداقية وتحظى بدعم سياسي عريض، "حكومة الانقاذ" تقابلها في الضفة الأخرى "حكومة الرئيس" هي صورة إعتبرها بعض المتابعين للشأن السياسي صندوق الألغام لمزيد تفجير بقايا المشهد السياسي وتأسيس لتقسيم حكم الدولة و"الحرب الأهلية" بشعار إما الحكم للجميع أو لا حكم لأحد.

في المقابل يسارع قيس سعيّد إلى تجميد مسار هذه المبادرة والدعوة إلى حكومة إنقاذ بحشرها في خانة زرع بذور الفتنة ومزيد تأجيج الصراع السياسي ليجمع بين أصحابها في الداخل وتحالفهم مع معارضيه في الخارج الداعين لعودة البرلمان أو تأسيس برلمان جديد على مقاسهم، إعلان رفض هذه المبادرة جاء مرافقا لتهديد صريح باللجوء إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية لمنع سعي البعض قطع الطريق أمام الأجندة التي رسمها معتبرا أن ما يعمل على تجسيده اليوم هو إنقاذ لتونس اليوم ممن كانوا سببا في الأوضاع التي وصلت إليها ومن الذين يدّعون بإعلانهم هذه المبادرة إنقاذها، موقف سعيّد يقود إلى أن هذه المبادرة قد ولدت ميتة وأنها ليست إلا صورة لجنين مشوّه نتيجة العلاقات السياسية المتأزمة بينه وبين حركة النهضة والحزام السياسي الداعم لها من التيار الاسلامي أو الأحزاب الديمقراطية الوسطية إلى جانب أن التحالف السياسي بين فرقاء الأمس كان هو المنصة التي سمحت لقيس سعيّد أن تكون له صلاحيات سلطة واسعة على باقي السلط، القضاء والبرلمان، التي ساعدته على النجاح في تغيير شكل الأول ومحو صورة الثاني من المشهد السياسي، فالموقف السياسي القوي لرئيس الدولة سيضطرّه مجدّدا لمحاولة وضع مزيد من الحيطة القانونية وتشريع المراسيم وتفعيل صلاحيات المؤسسات الأمنية لغاية عدم التفريط في ما حققه والعودة للمربّع الأول الذي سيعصف بكل النقاط المنجزة من خريطة الطريق.

يرى بعض المهتمين بالشأن السياسي أن شظايا المشروع الاخواني في تونس بعد سقوطه المدوي إثر حلّ البرلمان نهائيا على يد قيس سعيّد لازالت تتناثر لتحاول المساس بأكثر ما يمكن من الطيف السياسي لتتسع رقعة المتأثرين بما آلت إليه التجربة الديمقراطية التونسية وحيادها عن الطريق لصالح مشروع ديكتاتورية في المستقبل، فنجيب الشابي قد وجد في تراجع شعبية الأطراف السياسية الفاعلة درجة السلم الأولى ليعيد تجسيد حضوره ضمن المشهد العام وإعادة كتابة مشروع ينطلق أساسا من نقاط تجاربه التي ابتلاها الواقع قبل الثورة وبعدها بالفشل الذريع وحصر دوره في مجرّد صورة من صور السياسة البراغماتية التي تعالج الأزمات إنطلاقا من نقطة الفشل لعجزها عن خلق تصور إستراتيجي جديد للخروج من الوضع القائم ، هذا المنطلق أجبر الشابي على أن يكون هو المستفيد من عجز حركة النهضة وغيرها من الاحزاب بتقديم علاج قد ينقذ هذا الطيف السياسي ولكنه سيضطره في آخر المطاف إلى بتر الأجزاء التي كانت وستكون سببا في مزيد اعتلال جسد المشهد السياسي، فحكومة الانقاذ التي قدّمها كآخر حل جذري للأزمة السياسية الحالية ليست إلا أطروحة من أطروحات حركة النهضة في عهد بعض الحكومات السابقة والتي تراجعت عنها بعد أن كان ثمنها عدم وجود الحركة وحزامها السياسي ضمن تركيبة الحكومة.

تكتيك سياسي تعاد صياغته هذه المرة بفكر العائلة الديمقراطية الوسطية وبدعم أوروبي وأمريكي غير معلن، هذا الدعم الذي دفع الشابي وحلفاءه من السياسيين في الداخل وفي الخارج مؤخرا إلى إعلان إصرارهم وتأكيدهم تشكيل حكومة الانقاذ بموازاة حكومة الرئيس، تأكيد سيزيد من تشتيت الموقف الديبلوماسي التونسي وتأزم العلاقات مع المجموعة الدولية خاصة في إطار المفاوضات مع المؤسسات المالية العالمية في ظلّ وجود حكومة فعلية تقود هذه المباحثات وأخرى قد تجد مساندة من بعض الأوساط الرسمية وغير الرسمية في الخارج، هذا المشهد الذي من الممكن أن تعيشه تونس في الفترة القادمة سيكون نسخة أخرى مشابهة لنسخ النظم السياسية التي تشهدها بعض الدول العربية وسيضع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بتونس أمام مفترق طرق صعب قد يقود إلى نموذج الحكم العسكري كحلّ مؤقت لضمان دوام إستقرار المشهد السياسي الحالي.