برهان هلّاك

لطالما كان المحللون والمستشارون الماليون والاقتصاديون على غاية من الريبة في سياق مباشرة المخاطر المنجرّة عن طباعة الأوراق النقدية وزيادة ما يسمّونه بـ "النقد الرخيص" بالأسواق العالمية والمحلية بكل دولة. وفي هذا السياق، ينبّه هؤلاء المختصون من طباعة الأموال بتونس، وهو إجراء ينذر بارتفاع التضخّم ومزيد انهيار أسعار السندات المالية التونسية في الأسواق العالمية، كما أنه يحدّ من قدرة سياسات الدولة التونسية النقدية على السيطرة على مجهودات تحجيم انهيار قيمة العملة الوطنية.

إنّ سبرا لآراء المختصين في المالية سيشير إلى المخاطر الكبيرة لطباعة النقود من دون غطاء، أي من دون مقابل اقتصادي حقيقي يقوم بالأساس على رفع الطاقة الإنتاجية وهيكلة موازنات المدفوعات والمداخيل الوطنية. وتكون طباعة الأوراق النقدية لتوفير السيولة إلى ذلك بمثابة المُسكّن الظرفي وغير العلاجيّ الذي يراد منه شفاء الانهيار المحتمل، أو تأخيره إلى حين تحقيق تعافي اقتصادي يبدو في وضع تونس الراهن بعيد المنال. وتكون طباعة النقد بذلك طوقا للنجاة من الأزمة الراهنة، ولكن ذلك سيكون على حساب المستقبل الاقتصادي والمالي للبلاد التونسية إذ يخلق مشكلات تستعسر معالجتها مستقبلا.

ويشير تقرير البنك الدولي الأخير إلى التجاء تونس أڭتر فأكثر إلى صناعة كتلة نقدية عبر طباعة النقود، موضحا أنّ هذا الاجراء  يتمّ في واقع الأمر عبر القيام بتحويلات افتراضية إلى وزارة المالية التونسية التي تلجأ بدورها الى اقتراض محلي قصير المدى من البنوك التونسية، وليعيد البنك المركزي على إثر ذلك شراء السندات المالية في نفس اليوم دون توفّر أي سيولة حقيقية ينتجها الاقتصاد. وإن طباعة النقود من قبل البنوك المركزية هي عملية تقنية شديدة التعقيد، خاصة في المثال التونسي، إذ يجب على كل وحدة نقدية مطبوعة حديثا أن يماثلها رصيد من احتياطي العملة الأجنبية ورصيد معيّن من الذهب، أو سلع وخدمات فعلية كان قد تمّ إنتاجها بالفعل، وذلك حتى تكون النقود المتداولة في السوق ذات قيمة حقيقية وليست مجرد أوراق مطبوعة. أما في تونس فقد صار هذا الاجراء معهودا اليوم، إذ اتُّخذت عادة طباعة النقود بمعدلات ترفع من مستويات الخطورة وفي تجاوز للقواعد المتعارف عليها، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم التي بلغت في شهر ديسمبر الماضي 06,6 %، وليبلغ معدل تضخم أسعار المواد الغذائية 7,60 % في نفس الشهر حسب إحصائيات يوفّرها موقع "ترايدينغ إيكونوميكس".

وقد لجأت مؤسسة الإصدار، أي البنك المركزي التونسي، إلى هذه السياسة المحفوفة بمخاطر جمّة منذ ديسمبر من سنة 2020 وذلك حسب ما يؤكده خبير المالية التونسي عز الدين سعيدان، إذ تشير التقديرات إلى طباعة ما يقدر بـ 2.8 مليار دينار في السنة التي سلف ذكرها. وليتواصل اعتماد هذا الاجراء النقدي حتى أشهر جويلية وأوت وسبتمبر من سنة 2021 وجانفي 2022 إذ تم اعتماد الأوراق النقدية المطبوعة حديثا في سداد الرواتب وتغطية المصاريف المنجرة عن كتلة الأجور الضخمة. ويجدر التذكير ببعض التقديرات التي ذكرها سعيدان الذي يؤكد على أنه قد تمت طباعة 8 مليارات دينار حتى اليوم، محذرا من تضخّم مالي غير مسبوق وانهيار سعر الدينار التونسي المتدهور أصلا.

إن وضعا تكون فيه كمية النقود أعظم من حجم الاقتصاد سينتج بالتأكيد تضخما غير محمود العواقب. ويقرّ الخبير الاقتصادي التونسي رضا الشكندالي في تصريح لصحيفة الأحد التونسية أنه من المنتظر أن ترتفع نسب التضخم بشكل تصاعدي في الأشهر القليلة القادمة، مؤكدا على كون ذلك انعكاسا مباشرا لعدم استقرار العملة واضطراب وضعية الدينار التونسي وتقهقره المتواصل. وهو ما يؤثر بشكل مباشر على السوق المالية والأوضاع المالية بصفة أعمّ.

ويكون منشأ الضغوط التي يخلقها التضخم المالي نابعا من المحددات الرئيسة لمصدر العرض، وأهمها ارتفاع أسعار المواد الأساسية في السوق الدولية، فضلاً عن الضغوطات التي تعيشها تونس من جهة التوازنات الخارجية. ويؤثر كل ذلك في تكاليف الإنتاج، ومنها ارتفاع تكاليف الأجور والارتدادات غير المباشرة للزيادات في أسعار الطاقة في العالم. وفي ظل هذا العجز، تبقى الدولة محتاجة بشكل شبه دائم إلى العملات الصعبة من قبيل الدولار واليورو. ويرى المختصون ضرورة في أن يكون عجز الميزان التجاري في حدود معينة لا تتجاوز 5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للدولة، باعتبارها النسبة أو السقف المتعارف عليه اقتصاديا. ومن ثمة فإن استحداث المزيد من النقود وتوزيعها بشكل متساو على أفراد المجتمع، يعدّ نظريا عملية عادلة وحيادية حسب المختص في المالية، رضا الشكندالي. بيد أنّ زيادة حجم الأوراق النقدية المعدة للتبادل لا يعني البتة زيادة في الثّروة.

ويعتقد المحلل الاقتصادي لدى شركة "أوربكس" لتداول العملات، عاصم منصور، أنّ كبرى البنوك المركزية العالمية قد عمدت إلى تبنّي سياسات تسهيلية مكثفة للخروج من أزمة كورونا، حيث لم تكن أدوات السياسة النقدية العادية، مثل خفض معدلات الفائدة، كافيةً لتحفيز النمو الاقتصادي. وهو ما قد تم بالفعل في حالة تونس ومنذ التدابير التي أقرها البنك المركزي التونسي في أكتوبر من سنة 2020، أي الاعلان عن خفض نسبة الفائدة الرئيسية من 6.75 في المئة إلى 6.25 في المئة، وذلك بهدف تشجيع الاستثمار ودعم النشاط الاقتصادي. إلا أنه يجب ألا تعتمد الحكومات على البنوك المركزية بشكل كبير في تحفيز النمو الاقتصادي، بل عليها أن تدعمه عبر العديد من التدابير والسياسات الأخرى، من قبيل توفير حزم تحفيز مالية وإرساء ركائز النمو المستدام؛ يتحتم العمل على إعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية وتذليل القيود التي تعيق سيرورة النمو. كما يستوجب الوضع مزيد الانخراط المدروس في الاتفاقات التجارية العالمية التي تهدف لتحفيز النمو العالمي قاطبا، وبالأخص في هذه الفترة التي تعقب الآثار المدمرة اقتصاديا لجائحة كورونا.

قد يمكن النظر إلى طباعة النقود بالأزمة الراهنة على أنه طوق نجاة أخير تتمسك به الدولة التونسية، وذلك في سبيل إنقاذ الاقتصاد من أزمته المستفحلة والحفاظ على بعض القطاعات الرئيسة من التعثّر الشديد أو الاختفاء الكامل. وإنّ نقص السيولة المالية المتعاظم والناجم عن الأزمات الاقتصادية هو أهم الأسباب الكامنة وراء عمليات الطباعة التي تأتي بدورها كمحاولة لتجنّب انكماش أو ركود اقتصادي عسير ستصطبغ السنوات المقبلة بآثاره المقيتة. بيد أن لطباعة الأموال من دون مقابل اقتصادي فعلي العديد من الاستتباعات السلبية المدمّرة والتي يستشكل إصلاحها. فاضطرار البنك المركزي التونسي إلى طباعة الأوراق المالية لتوفير سيولة للدولة لسداد الأجور هو إجراء خطير جدا، حيث لا يستقيم الركون إلى طباعة النقود وضخّها في الاقتصاد إلى ما لا نهاية باعتبار وجوب أن تكون كمية النقود المتداولة متوافقة مع حجم السلع والخدمات في إطار الناتج المحلي التونسي.