كشفت جائحة كورونا أن الدول العربية بعامة والمغرب بخاصة لم تستثمر في بناء مؤسسات بحثية ومختبرات حقيقية تستطيع أن تقدم حلولها ومكتشفاتها المواكبة للمتغيرات العالمية الجديدة. وفي هذا السياق أجمع المشاركون في ندوة عبر الإنترنت نظمها "مركز السياسات للجنوب الجديد"، الخميس 27 ماي، في موضوع "الدولة، المواطن والمجال المعرفي" على أن أزمة كوفيد -19 أظهرت الحاجة إلى تقوية منظومة إنتاج البحث العلمي بالمغرب. وذكر بلاغ للمركز أن المتدخلين شددوا على أن دور السياسي حاسم، لكن بالتنسيق مع المجموعات الأخرى، وأن التكنولوجيا مكنت من تيسير الولوج، والسرعة، واستمرارية الخدمات، وتظل في صلب عمل مراكز التفكير التي تنتج بغزارة حاليا بفضل التكنولوجيا الرقمية.

الأكيد أنّ الجائحة وما نتج عنها حتى الآن لفتت الأنظار إلى أهمية الاستثمار في البحث العلمي، سواء كان ذلك الاستثمار حكوميا أم خاصا، ومن المهم أن ينتبه المغرب في المرحلة القادمة لبناء مختبرات جديدة، تستطيع أن تسهم في تطوير لقاحات وتقديم حلول طبية لا أن تنتظر استيرادها من الخارج، بخاصة وأن علماء الأوبئة يعتقدون أن البشرية مهددة بظهور الكثير من الأوبئة في السنوات القليلة القادمة وليس علينا أن ننتظر ما يفعله الآخرون بل أن نكون حاضرين ومؤثرين في المشهد. ومشكلة البحث العلمي في المغرب لا تقف عند التمويل، فهناك جانب مهم يتعلق بربط مخرجات البحث العلمي بالإنتاج، وإذا كنا قد شرعنا في تحويل بعض البحوث ومشروعات التخرج إلى شركات ناشئة، فإنه لا يزال دون الطموح لمحدودية ما تتم الاستفادة منه. واللوم هنا ليس على الحكومة في ضعف تمويل البحوث العلمية والابتكار، كان لا بد من القطاع الخاص أن يلعب دوره الطبيعي في هذا الجانب، باعتباره شريكًا أساسيا في التنمية، ففي المجتمعات التي تؤمن بأهمية البحث العلمي يتحمل الثقل الأكبر في التمويل، ومن ذلك على سبيل المثال في كندا لا يتجاوز التمويل الحكومي عن 40 في المائة، و30 في المائة في الولايات المتحدة، وأقل من 20 في المائة في اليابان.

في البلدان المتقدمة يتصدر الابتكار والبحث العلمي الميزانيات وقائمة الإنفاق، ليس من قبل الحكومات فحسب، بل إن الدور الأكبر يقوم به القطاع الخاص الذي يؤمن بدور البحوث والابتكارات في رقيه واستمراره، وفي المقابل لم يجد البحث العلمي ما يستحقه من الاهتمام والإنفاق في دول أخرى، اعتادت على استيراد كل شيء معلبا من الخارج، حتى الأفكار والحلول لمشكلاتها، وكثيرا ما يكون نهايتها الفشل كونها لا تتناسب مع طبيعتها وطبيعة سكانها. وفي المغرب يلاقي الابتكار والبحث العلمي اهتماما، لكنه لم يتعد حدوده الدنيا، وإذا كانت الأحلام الضخمة والمشاريع العملاقة على حساب الخطاب الرسمي، فمن حقنا أن نتساءل عن حقيقة البحث العلمي على مستوى الواقع. فها نحن ودعنا عدة سنوات من الميثاق، فأين هو تقرير البحث العلمي لكي نقف على الإنجازات والإخفاقات؟ والميزانية المخصصة للبحث العلمي بالمغرب ما زالت دون 0.8 في المائة في حين أن الارتقاء به يحتاج لرصد على الأقل 3 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي. 

وهذا البحث الذي نتحدث عنه كيف يمكن أن تقوم له قائمة إذا كان معتمداً على المقاولات ومشاريع المؤسسات والمنح والهبات وتملص الدولة من واجباتها ومسؤولياتها تجاه هذا القطاع. أضف إلى ذلك الأمراض التي تنخر المؤسسات عموماً والبحث العلمي خصوصاً، كعدم تكافؤ الفرص، فبعض الجامعات تعرف تخمة مالية بينما تعاني أخرى بؤساً مالياً وقلة في الاعتمادات المالية، وغياب النزاهة والجو الديمقراطي كانتشار الزبونية والمحسوبية والانتهازية وغياب العدالة في تقييم الباحثين، وضعف الاتصال ونقص تبادل المعلومات، فالباحث في كلية الطب يصعب عليه التواصل مع زملائه في كلية العلوم، والمهندس لا يشارك الصيدلي في بحثه وعمله وهكذا تتوسع دائرة العزلة والشتات. وإذا انتقلنا إلى الباحث العلمي في المغرب فإن الأمر يبعث على الحزن والأسى، فآلاف الباحثين يحلقون خارج السرب، فرغم جهودهم وأبحاثهم المضنية لا يلتفت إليهم ولا يؤخذ برأيهم في أي سياسة تربوية أو اقتصادية أو اجتماعية، فهم خارج دائرة اتخاذ القرارات. والأدهى والأمرّ أن كثيراً من الحاصلين على الشواهد العليا يعيشون البطالة والتهميش والضياع وتنالهم العصا من حين لآخر. من جهة أخرى، تظهر أزمة الإنفاق على البحث العلمي بالمغرب، في اقتصار معظمها على المخصصات الإدارية قليلة الجدوى، إذ يتم إنفاق ما نسبته 76 في المائة من مجموع ميزانية البحث العلمي في الوطن العربي على المخصصات والأجور المدفوعة للباحثين والعاملين في هذا المجال، في الوقت الذي تقل فيه هذه النسبة في الدول المتقدمة، حيث تخصص النسبة الباقية لبناء وتطوير البنى التحتية لمؤسسات البحث وتجهيزاتها التقنية المكلفة. ومن المعروف أنّ عملية تمويل البحث العلمي تعتمد على مصادر أربعة مهمة، أولها التمويل الذاتي وهو الذي يعتمد على مخصصات المؤسسة البحثية، وهي غالباً ما تكون محدودة في نطاق ضيق حتى في أكبر جامعات العالم، كما تتوجه غالباً لتغطية النفقات الأساسية لعملية البحث العلمي من تجهيزات ونفقات إدارية وتكاليف نقل واتصال ومنح دراسية للمتميزين وير ذلك. ثم دول العالم الثالث. والمصدر الثالث هم التمويل الحكومي لكل دولة على حدة، وأخيراً هناك التمويل الخاص الذي تقدمه المؤسسات والشركات والأفراد، والذي يأخذ الطابع التجاري الاستثماري أو الخيري في بعض الأحيان.

ولا يمكن أن تعبر جائحة كورونا دون أن نعيد التفكير في قضايا البحث العلمي بالمغرب، فقد أثبتت المرحلة أن التخصصية مهمة جدا خاصة في المجالات العلمية، والعلمية الدقيقة، وعلى الدول المغرب أن يستثمر في هذه الجوانب لأن الحاجة لها في المرحلة القادمة ستكون ملحة جدًا. وبناءً على ما سبق، تتضح لنا أهمية البحث العلمي للاقتصاد الوطني المغربي، ودراسة الجدوى الاقتصادية لمشاريع البحث العلمي، تماماً كما تتم دراسة الجدوى الاقتصادية لأي مشروع استثماري تقليدي. ولعل أهم الشروط الواجب توفيرها لتعظيم فوائده تتلخص في النقاط الثلاث التالية:

ـ اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب بدءاً من مرحلة التعليم المدرسي وانتهاءً بعملية التخصص العلمي العالي، إذ بات من الضروري للباحث أن يكون الاختصاص الذي يختاره واقعاً في صلب اهتمامه، وأن يكون إنتاجه العلمي والبحثي ناشئاً عن رغبة شخصية وشعور تام بالرضا وتحقيق الذات، ولا يتأتى ذلك إلا بالتأكد من موائمة الاختصاص من الميول النفسية والشخصية ومن القدرات العقلية والجسدية. علماً بأنّ الإبكار في الكشف عن هذه الإمكانيات لدى الباحث في سنوات عمره الأولى ستضاعف من المردود المأمول تحصيله فيما بعد، فضلاً عن توفير الكثير من الجهود والتكاليف التي يتم هدرها عادة أثناء مرحلة التعليم في سبيل التخصص، والتي غالباً ما يتم تحمل أعبائها من قبل الحكومة.

ـ تعميق التخصص في المجال البحثي الذي يختاره الباحث، وعدم التبحر في العموميات والفروع الأخرى التي تتقاطع مع مجال التخصص، فقد أفرز المجال البحثي الذي يختاره الباحث، وعدم التبحر في العموميات والفروع الأخرى التي تتقاطع مع مجال التخصص، فقد أفرز التوسع العلمي المعاصر في مختلف مجالات العلوم أعداداً هائلة من الاختصاصات الدقيقة، والتي يمسُ كل منها جانباً صغيراً من التراكمات العلمية المعروفة. وهكذا أصبحت الثقافة المنشودة لدى المثقف المعاصر تقتضي أن يعرف عن شيء كل شيء، وعن كل شيء شيء.

ـ ضرورة توافق البحوث العلمية ومناهج التعليم مع الواقع المعاش، وهذه مشكلة تعاني منها الدول النامية بشكل كبير، إذ غالباً ما تعتمد ما تعتمد هذه الدول في بناء نهضتها على العلماء والباحثين الذين يتم إيفادهم إلى دول الغرب، فيعودون إلى أوطانهم وقد تشربوا الفكر والثقافة الغربيين، وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى نوع من الاغتراب الثقافي الذي يعيشه هـؤلاء المثقفون في مجتمعاتهم، وينسلخون بشكل أو بآخر عنها على الرغم من حاجتها الماسة للإفادة من علومهم وخبراتهم. ومن جهة أخرى، كثيراُ ما يقع الباحثون في مشكلة التعقيد الأكاديمي التخصصي في غضون بحثهم في القضايا الاجتماعية العامة، وتشيع هذه الظاهرة على وجه الخصوص لدى الباحثين في مجال العلوم الإنسانية على اختلاف مشاربها، ممّا يزيد من اتساع الهوة الفاصلة بين أبحاثهم وبين الواقع، ويُقلل من أهمية نتائجها. ويمكننا الحد من عواقب هذه المشكلة عبر دفع الباحثين للانخراط في المجتمع بشكل أكبر، وتوسيع دائرة البحث العلمي لتعم شرائح واسعة من الأفراد والمؤسسات المختارين كموضوع للبحث، وأيضاً من خلال توعية عامة الناس لجدوى البحث العلمي وفوائده الاجتماعية، إذ كثيراً ما تلقى الأبحاث نفوراً من قبل العامة وتشكيكاً في جدواها، وذلك للأسباب المذكورة. وفي هذا يقول العالم '' برناردو هوساي '' الحاصل على جائزة نوبل في الطب، أنّ لا وجود لعلم تطبيقي إذا لم يكن هناك تطبيق له.

وفي هذا السياق، تظهر مشكلة الروتين والجمود في عملية البحث العلمي، إذ تشير الإحصائيات إلى أنّ نصيب الأسد من إجمالي الإنفاق على البحث العلمي ذات مصدر حكومي، حيث يحجم القطاع الخاص عن المساهمة في تمويل البحوث والتطوير، إمّا بسبب قصور الأنظمة عن السماح لهم بذلك، أو بسبب نقص الوعي لدى المستثمر المغربي بأهمية البحث العلمي، وميله نحو استيراد التقانة الجاهزة في ظل السيولة المالية الكافية ونقص الخبرات الوطنية الكفؤة، ولا شك في أنّ الاستمرار على هذا النحو سيزيد من صعوبة حل المشكلة، وسيوقع بلادنا في أزمة تخلف حضاري مزمنة. وإذا انطلقنا من سياسة الدولة المغربية في تعاملها مع البحث العلمي فإننا نجد شرخاً وانفصاماً بين الأحلام الواسعة والمشاريع الضخمة التي يسطرها القائمون على هذا القطاع وبين واقع البحث العلمي الذي يبدو أبعد ما يكون مواكبة مستجدات البحث العلمي على مستوى العالم. 

لقد أدرك العالم المتقدم أهمية البحث العلمي في بناء القوة الاقتصادية في العصر الحاضر، وباتت الدول الصناعية تعول الكثير على إنفاقها السخي على البحث العلمي، وهي تتوقع بالطبع أن تجني مكاسب أكبر بكثير بعد توظيف جهود علمائها في تطوير اقتصادياتها، حيث ينادي البنك الدولي منذ أواخر السبعينات بمفهوم استرداد تكلفة التعليم العالي بالكامل، وألاّ تتحمل الدول أعباء مالية في إنفاقها على التعليم العالي إلاّ في حدود دنيا، حيث يتوقع استرداد كامل النفقات التي يستهلكها الطالب أثناء دراسته، عبر توظيف العملية في بناء اقتصاد بلاده، والتي يتوقع أن تكون محصلتها أعظم من التكاليف التي أنفقت على تحصيلها، وبكلمة أخرى فإنّ عملية التعليم والتدريب في الدول المتقدمة يُنظر إليها على أنّها استثمار مباشر طويل الأمد. وهذا أمر يصعب تحقيقه في المغرب على أي حال، إذ غالباً ما يعتمد الطالب على التعليم الجامعي الحكومي، والذي لا يتصف بقلة تكاليفه أو حتى بمجانيته فحسب، بل أيضاً بتخلفه عن التطور العالمي، فضلاً عن جمود أساليبه التدريسية، وشيوع البيروقراطية الحكومية في مؤسساته، والذي يؤدي في مجموعه إلى تعميق حالة العزلة التي يعيشها العلم والمثقف منذ بداية مرحلة تحصيله العلمي، وتحول العلم لديه إلى مجرد وسيلة لتحصيل المال الذي يُؤمّن له حد الكفاف، أو مطية لاعتلاء المناصب الوظيفية في أحسن الأحوال. 

وهكذا نجد أنّ مشكلة البحث العلمي في المغرب، قد خلت بالفعل في حلقة مفرغة، فهي من جهة عاجزة عن تحقيق نتائجها المتوخاة بسبب ضعف الموارد والتخلف الاجتماعي والفساد الإداري، كما أنّها مغرقة في البعد عن الواقع لانسلاخ أصحابها عن مجتمعاتهم واختلاف مرجعياتهم الثقافية والفكرية المرتبطة بالغرب من جهة أخرى. ولا خلاف على أنّ حل هذه المعضلة يستلزم جهوداً كبيرة من قبل الجميع، ولعل أزمة وباء كورونا، بما مثَّلته من تحديات علمية في مجال الطب والدواء تكون عاملا محفزا لعودة اهتمام الحكومة المغربية بالبحث والتطوير، خصوصا البحوث الأساسية التي قد لا يرى القطاع الخاص طائلا مباشرا وقويا لاستثماره فيها، وليكن ذلك مكملا للاستثمار في القطاعات التي تهتم بها لحكومات الآن من تعليم وصحة ومشروعات بيئية ذكية وتطوير تكنولوجي وما شابه. فبدون البحوث الأساسية وزيادة مخصصات البحث والتطوير إجمالا ضمن الميزانيات العامة للحكومة، ستتكرر الأزمات المشابه لوباء كورونا، ليس بالضرورة أزمات صحية، وإنما أزمات أخرى في مجالات مختلفة من حياة الناس واستغلالهم للأرض لضمان استمرار معيشتهم. فقد كشفت أزمة وباء كورونا أن العالم كله في الهم سواء، المتقدم منه والنامي الغني منه والفقير، وأن تراجع البحث العلمي أصبح سمة عامة مع خفض الإنفاق الحكومي عليه في أغلب البلاد، ورغم أن البحث والتطوير في الشركات الخاصة أفاد نسبيا، إلا أنه كما قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كان بدافع "الجشع الرأسمالي" الذي مكَّن شركات الدواء من تطوير لقاحات بسرعة وبكميات كبيرة.

فإذا كان من المسلّم به أن دعم التطور الاقتصادي والاجتماعي لأي بلد يتمّ عَبر تطوره العلمي والتكنولوجي والعكس بالعكس، فإنه في الدول النامية تبقى أنشطة البحث العلمي منعزلة عن تطبيقاتها الميدانية وتكون بالتالي تأثيراتها على النمو الاقتصادي والاجتماعي ضعيفة، والمغرب لا يخرج عن هذه القاعدة إذ لا زال البحث العلمي وأنشطته التطبيقية رغم تعددها لم تخلق الروابط العضوية الضرورية مع القطاع الاقتصادي والاجتماعي ببلادنا، ولذلك فإن مسؤولية الجامعات ومؤسسات تكوين الأطر لا تقتصر فقط على تكوين الأطر الكفؤة لتلبية حاجة القطاع الاجتماعي والاقتصادي والقيام بأنشطة البحث لتوليد المعرفة، ولكنها يجب أن تتعداها للقيام بمهام التكوين المستمر للأطر الحالية لتمكينها من استيعاب تطور المعارف والتكنولوجيا المرتبطة بمجالات عملها أو لفتح آفاق جديدة بالنسبة لها. كما يجب أن تشمل المساعدة على نقل التكنولوجيا من خلال تقديم خدمات للفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين لتمكينهم من التحكم في التكنولوجيات الحديثة لإنماء الدور التنافسي لمقاولاتهم. والمغرب يتوفر على عدد مهم من الباحثين من مستوى رفيع يتابعون المستجدات العلمية على المستوى العالمي، لذلك يجب على المغرب أن يمنح لهؤلاء الباحثين الذين هم بمثابة رأسماله العلمي والرمزي اهتماماً كبيراً، لأنهم أنجزوا أبحاثاً ذات أهمية كبيرة تعود بالنفع على المغرب وباقي دول العالم. ورغم هذه النقط القوية التي تميز نظام البحث العلمي في المغرب، فلا زالت هناك العديد من الثغرات لاسيّما الانخفاض النسبي في نمو البحث العلمي، وتجزيء الرأسمال العلمي، وشيخوخة الباحثين، وغياب التقييم، ونقص البنيات التحتية لتثمين البحث العلمي. 

كاتب صحافي من المغرب.