برهان هلّاك

أضحى التلقيح ضد فيروس كورونا في تونس إجباريا للذين تفوق أعمارهم 18 سنة، و ذلك بأمر رئاسي أصدره الرئيس التونسي قيس سعيد مساء الجمعة 22 أكتوبر 2021. و يتعلّق الأمر الرئاسي باعتماد جواز تلقيح خاص بالتونسيين و الأجانب الوافدين على تونس، كما يشترط هذا الجواز استكمال التلقيح ضد كوفيد ـ 19 للبالغين 18 عاما فما فوق ( بالإضافة إلى المشمولين بالتلقيح ممن هم دون سنّ 18 سنة). و ينص هذا المرسوم الرئاسي الذي يتكون من 11 فصلا على ضرورة الاستظهار بهذا الجواز في عدد من الإدارات العمومية و المؤسسات التربوية و التعليمية، و بعض الأماكن الموجهة للاستهلاك كالمطاعم و المقاهي و محلات الترفيه، و قد تم نشره في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية ( المجلة الرسمية لنشر القوانين بتونس)، على أن يدخل حيّز التنفيذ في القريب العاجل.

و أثار هذا القرار تفاعلات متعددة التوجهات في صفوف التونسيين منذ تاريخ الإعلان مساء يوم الجمعة؛ حيث رحّب البعض بهذا الإجراء الذي سيساهم في حماية التونسيين من انتشار فيروس كورونا معتبرين أنّ اجبارية التلقيح ستحقق مناعة جماعية، و مستندين إلى أنّ التونسيين في حد ذاتهم قد نادوا بأن يتم تلقيح أكبر عدد ممكن منهم ضد هذا الوباء القاتل الذي حصد آلاف الأرواح في تونس. كما رحّبت بعض الطواقم الطبية، من قبيل رئيس قسم الطب الاستعجالي بتونس الدكتور سمير عبد المؤمن، بهذا القرار، و أورد موقع " بيزنس نيوز " الإخباري تدوينته التي قال فيها بأن 25 ألفا من الموتى جراء هذا الفيروس اللعين مصيبه فادحة و أنه يجب الوقوف عند ذلك الحد. في حين قالت الناشطة و الصحفية التونسية نزيهة رجيبة ( أمّ زياد ) بأن شرط إمكان الحرية هو البقاء على قيد الحياة و أن ذلك مشروط بإجراء التطعيم خاصة في ظل تنامي المخاوف من موجات جديدة للوباء أشد فتكا و أعظم ضررا.

غير أن الموقف المعارض لما نصّ عليه هذا المرسوم الرئاسي قد أكّد على " الشطط " في الحماية من آفات هذا الوباء، مستندا في ذلك إلى استنكار ما نص عليه الفصل السادس من هذا القرار )"  يترتّب عن عدم الاستظهار بجواز التلقيح تعليق مباشرة العمل بالنسبة إلى أعوان الدولة والجماعات المحلية والهيئات والمنشآت والمؤسسات العمومية، وتعليق عقد الشغل بالنسبة إلى أجراء القطاع الخاص، وذلك إلى حين الإدلاء بالجواز. وتكون فترة تعليق مباشرة العمل أو عقد الشغل غير خالصة الأجر "(. و يعتبر الكثيرون ذلك ممارسة و سابقة خطيرة جدا لم تحدث فى أي من دول العالم، مشيرين إلى أنّ الحضّ على التلقيح و التشجيع عليه لا يكون بمثل هذا الإجحاف و الإجبار. كما عبّر بعد القياديين بالاتحاد العام التونسي للشغل، مثل سامي الطاهري، عن عدم موافقتهم على هكذا قرار باعتبار أنه يهدّد مورد عيش مئات الآلاف من الموظفين العموميين و المشتغلين في مؤسسات خاصة.

و بغض النظر عن المواقف المتباينة من هذا القرار، فإن ما يلفت إنتباهنا هو حدّة هذه الإجراءات من جهة، و الإستعداد القبليّ للتونسيين للخضوع و الإنصياع لتدابير من المفروض أن يتم إحترامها من دون اللجوء للتشريعات المنفذة من قبل مؤسسات الدولة العنفية.

فمن جهة أولى، يمكن فهم هذا " التطرّف " الإجرائي، الذي يعكسه الفصل السادس المذكور أعلاه من القرار الرئاسي، من خلال الحرص على إنقاذ أرواح التونسيين من الوباء و إستفحاله الناجم عن لامبالاة حكومة الإهمال القاتل ( حكومة هشام المشيشي المسؤولة أخلاقيا على الأقل عن أرواح 4 آلاف من الموتى في جويلية الفارط فقط!)؛ فليس من المبالغة في شيء اعتبار حكومة هشام المشيشي، و حزامها السياسي المكون من حركة النهضة و إئتلاف الكرامة و حزب قلب تونس، حكومة إهمال و تكريس قناعة الموت المحتم في ظل العجز عن إدارة الوضع الوبائي. لقد قادت هذه الحكومة البلاد إلى أمجاد مخزية من حيث تحقيق أرقام قياسية في عدد الوفيات التي فاقت 20 ألف حالة وفاة، و الإنتشار الرهيب لمتحور دلتا شديد الخطورة نتيجة لإخفاق سياسات مراقبة الحدود. و من هذا المنطلق، تكون إحدى أهم رهانات قيس سعيد من وراء هذا المرسوم رهانا صحيا في قلب مجريات الأمور فيما يتعلق بإدارة فعالة لملف الطوارئ الصحية التي باتت خطرا داهما يهدد التونسيين بالفناء. و يبرز من وراء ذلك رهان سياسي يتمثل في إعادة " الحزم و الشدة كصفات للدولة التونسية "، إذ تنصّب قيس سعيّد رمزا لرفض و إسقاط منظومة الحكم المتغلبة بالصندوق و التحالفات غير النزيهة مع الفساد و النهب اللذان كادا ينهيان أي وجود للدولة التونسية. إن التشدد في هكذا تسيير لشؤون المجتمع من قبل الدولة قد بات رأس مال رمزي لشخص الرئيس الذي ما فتئ قدومه يُصوَّرُ على أنّه " مهمّة رسوليّة " للإنقاذ و الإعادة إلى " جادّة الصواب ". 

و أما فيما يتعلق بطواعية الخضوع عند التونسيين، فهي عجيبة و مثيرة للإهتمام في آن؛ إنّهم من انتخب بشكل أغلبي من أوصلوهم إلى هذا العدد المفزع من الوفيات جراء الوباء إهمالا و تقاعسا و إجراما و إنتهاكا للحق في الصحة و حرمة الحياة البشرية، و لكنهم هم من خرجوا احتفالا بقرارات الرئيس في 25 جويلية الماضي في خضوع تام للمقررات الرئاسية لتلك الليلة. كما أنهم هم من ظلوا يطالبون بتعميم التلاقيح و حملات مكثفة لإجراء التطعيم ضد فيروس كورونا، و إذ بعدد مهم منهم يمتنع عن إجراء التلقيح ( لم يتجاوز عدد التونسيين الذين تم تطعيمهم 8 ملايين، و لا يزال ذلك العدد بعيدا عن أي إمكان لتطوير مناعة جماعية حسبما تقرّه وزارة الصحة التونسية). و إن هذا الإمتناع لسوف يتخافت الآن، بل و سيضمحل، خوفا و إمتثالا للمرسوم الرئاسي القاضي بالتضييق على غير الملقّحين و الذين سيجدون أنفسهم عاطلين عن العمل بموجبه، بل و غير قادرين حتى على إرتياد مقهى أو مطعم أو حانة في أي من ربوع البلاد. و بهذا، يكون الإمتثال لواجب إجراء التطعيم غير نابع عن إرادة ذاتية، بل هو نتاج لعلاقة عنفيّة تم بمقتضاها الإجبار على فعل ( التلّقيح) دونما أي بادرة ذاتية و إقبال طوعيّ. و إنه لمن المؤكد الآن بلوغ الأعداد اللازمة للتونسيين الذين أجروا تطعيمهم، و هو ما سيفضي إلى تطوير و إكتساب مناعة جمعيّة سوف تكون نتاجا لأوامر فوقية مفروضة، و مدفوعة بالخوف من الإستتباعات القانونية لعدم الإمتثال لهذه الأوامر الصادرة بالمرسوم الرئاسي ليوم الجمعة 22 أكتوبر 2021.

و مهما يكن من أسباب إقبال التونسيين على التلقيح الآن، فإن المعطيات عن الوضع الوبائي تشي بتحسن طفيف خاصة من جهة التسريع في وتيرة إجراء التطعيم ضد فيروس كورونا الذي سيتضاعف في قادم الأيام بدخول فصول الأمر الرئاسي حيز التطبيق. و إن نجاح هذه الإجراءات، و إن كانت مشطّة و قصووية، قد يساهم في حفظ الأرواح البشرية و إستعادة التونسيين للأمل في أبسط الخدمات العمومية التي يجب على الدولة تقديمها، و ذلك بعد خيبات و حيف و ظلم  تعرضوا له خلال عشرية سوداء من حكم التحالفات الحزبية و اللصوصية.