مصطفى حفيظ

فجأة وجدت الأحزاب السياسية في الجزائر نفسها عاجزة أمام جدار سميك اسمه قانون الانتخابات الجديد الصادر في مارس/آذار 2021، خاصة عقب التعديلات التي طرأت عليه بعد أمر رئاسي صادر في أوت/ آب الماضي، فمواده المتعلقة بشروط الترشح وجمع التوقيعات واعداد القوائم، جاءت شديدة الصرامة لدرجة أن هذه الأحزاب على كثرتها وجدت صعوبة في تحقيقها على أرض الواقع، لذلك، يبدو أن السلطة بتعديلها لهذا القانون، تريد خلق منطق جديد يكون فيه الحضور الحزبي محدودا ودون تأثير، فهل يعني ذلك الاعداد لخارطة سياسية جديدة في الانتخابات المحلية شبيهة بتلك التي أفرزتها نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة؟

هل تبحث السلطة عن تقزيم دور الأحزاب السياسية في الانتخابات المحلية المقبلة شهر نوفمبر/تشرين الثاني؟ يبدو أنها قد فعلت ذلك فعلا، والدليل، بحسب معطيات الواقع السياسي في الجزائر هذه الأيام، هو تذمّر معظم التشكيلات السياسية من مضمون القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات في شقّه الخاص بالترشح لانتخابات المجالس الولاية والبلدية أو مثلما يسمّى في الجزائر (الانتخابات المحلية)، ومثلما طالعتنا تقارير بعض الصحف الجزائرية، فإنّ الأحزاب التي أعلنت المشاركة في هذه الانتخابات وجدت صعوبات في جمع التوقيعات وتعرضت قوائمها للزبر من قبل السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، سواء بسبب شبهة الفساد والمال الفاسد، أو العجز عن جمع التوقيعات في بلديات معينة، أو ظاهرة حزبية اسمها التجوال السياسي، أي تغيير الحزب بحزب آخر من أجل الترشح بعد اقصاء هذا المترشح أو ذاك من حزبه، أو فشله في انتخابات سابقة.

إذن، ومثلما يتضح، فإنّ الأحزاب السياسية في الجزائر، وأبرزها في الساحة حاليا، تلك التي خاضت معترك الانتخابات النيابية التي جرت شهر يونيو/حزيران الماضي، وجدت صعوبات حقيقة في دخول سباق انتخابات المجالس المحلية، حتى أنّ بعضها، مثل الحزب الحاكم سابقا وهو حزب جبهة التحرير الوطني (الأفالان)، فقد الكثير من البلديات التي كان حاضرا في مجالسها بقوة سابقا، وتقول بعض التقارير الإخبارية بأنه فقد 200 بلدية، حيث لم ينجح في تقديم قوائم مرشحيه هناك، وذلك طبعا بسبب الشروط الصارمة التي طبقتها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، ولعل عملية الزبر هذه، التي شملت معظم القوائم التي تقدمت بها الأحزاب في المجالس الولائية والبلدية، أخذ في الحسبان شبهة الفساد والتزوير في عملية جمع التوقيعات، أو وجود أسماء غيّرت أحزابها وترشحت في قوائم أحزاب أخرى، أو ترشحت بصفة مترشح حر. من هذا يتّضح حجم الصرامة التي تعمل بها السلطة المستقلة للانتخابات، والتي تساعدها مصالح الأمن في التدقيق في ملفات المترشحين، وتقول التقارير إنّ هذه السلطة ستفاجئ الأحزاب في الأيام المقبلة بالإعلان عن القوائم النهائية التي تم قبولها، وهذا في حدّ ذاته هاجس يقلق هذه الأحزاب.

لنتأمل قليلا فحوى قانون الانتخابات الجديد هذا، الذي انتقدته الكثير من الأحزاب، والذي اعتبرته جبهة القوى الاشتراكية (الأفافاس) في تصريح لأمينها الوطني بأنه "بمثابة إعلان حرب ضد الأحزاب السياسية وضد كل ما هو منظم في المجتمع"، فماهي هذه الشروط التي تستعملها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات لغربلة قوائم المترشحين للانتخابات المحلية؟ ولماذا اعتبرت مسألة جمع التوقيعات صعبة التطبيق في نظر الأحزاب؟ 

أولا، تشترط السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات على الأحزاب والقوائم الحرّة التي تريد المشاركة في الانتخابات المحلية أن تراعي شروط المادة 187 من القانون السالف الذكر، هذه المادة تخص انتخاب أعضاء المجالس الشعبية البلدية، وهي ضرورة أن تراعي القائمة عدد مرشحين يتوافق وعدد المقاعد في المجلس البلدي، حيث تنص على أنه "يتغير عدد أعضاء المجالس الشعبية البلدية حسب تغير عدد سكان البلدية الناتج عن عملية الإحصاء العام للسكان والإسكان الأخير"، ومن شروطها مثلا، يشترط أن تضم القائمة 13 عضوا في البلديات التي يقل عدد سكانـها عشرة آلاف نسمة، وهكذا كلما ارتفع عدد السكان زاد عدد المقاعد، لكن على ما يبدو لم تستطع الأحزاب أن تستوفي هذه الشروط في كل البلديات، لذلك تعرّضت العديد من القوائم للإقصاء.

ثانيا، المادة التي خضعت للتعديل في هذا القانون مؤخرا، وهي 318، والتي تتعلق بحمع التوقيعات، تشترط أنه " يجب على قائمة المترشحين المقدمة سواء تحت رعاية حزب سياسي أو بصفة مستقلة بالنسبة للبلديات التي يساوي عدد سكانها أو يقل عن عشرين ألف نسمة، أن تدعم على الأقل بـ 20 توقيعا من ناخبي البلدية المعنية فيما يخص كل مقعد مطلوب شغله." كانت بالنسبة لعدة أحزاب وقوائم حرّة بمثابة عائق أمام جمع التوقيعات لقوائمها، وطالما انتقدت الأحزاب هذه المادة حتى قبل تعديلها، ورأت بأنها شرطا صعب التطبيق، ويجب اعفاءها منه، حتى أن بعضها راسل السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات بخصوص ذلك وطالب الاعفاء من جمع التوقيعات بحجة أنها جمعتها في الترشح للانتخابات البرلمانية من قبل، أو أن يتم تسقيف عدد التوقيعات وطنيا مثلما هو معمول به في التشريعيات، أي 25 ألف توقيع على مستوى 25 ولاية وحد أدنى 300 توقيع عن كل ولاية.

ثالثا، الشرط الذي استطاعت به السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات أن تزبر أو تقصي العديد من المرشحين ضمن قوائم أحزاب وقوائم حرّة، هو ما تنص عليه المادة 184 من نفس القانون، أي شبهة الفساد لدى المرشحين، وتشترط هذه المادة على المترشح للمجالس البلدية أو الولائية أن "ألاّ يكون معروفا لدى العامة بصلته مع أوساط المال والأعمال المشبوهة وتأثيره بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الاختيار الحر للناخبين وحسن سير العملية الانتخابي"، أي أنه إن كان أيّ مترشح ذو علاقة بالمال الفاسد فهو مقصيّ بطريقة آلية من الترشح، ولعل هذا ما عرّض قوائم العديد من الأحزاب والمرشحين الأحرار للإقصاء، فهل هي خطوة إيجابية فعلا نحو تطهير المجالس المنتخبة من الفاسدين؟ 

لكن، أليس شيئا إيجابيا ما تقوم به هذه السلطة في حق الأحزاب والأحرار الذين أرادوا المشاركة في هذه الانتخابات بطريقة أو بأخرى؟ لقد رأينا من قبل كيف سيطرت تشكيلة من الأحزاب على المشهد السياسي لسنوات، سواء بتواجدها بقوة في البرلمان، الذي كان في يد السلطة وتتحكم فيه حفنة من السياسيين باسم ما عُرف في الصحافة الجزائرية "العصابة الحاكمة"، وطبعا، كان تأثير ذلك ممتدا حتى للمجالس البلدية والولائية، وشاب الفساد العمليات الانتخابية السابقة، وتكررت أسماء بعينها في المجالس المنتخبة، عطّلت مصالح الناس، والدليل الآن وجود العديد من رؤساء بلديات سابقين إما في السجن أو محل متابعات قضائية، والظاهر من خلال عمليات الاقصاء والفحص الدقيق الذي تقوم به سلطة الانتخابات بمعية مصالح الأمن، سيعرّض العديد من القوائم للإقصاء، لكن ما هو غرض السلطة من كل هذا؟

الأكيد، في اعتقادنا، أنّ الأمور تتجه نحو صناعة خارطة سياسية جديدة لا تأثير حزبي أو سياسي فيها، لأنّ السلطة على ما يبدو تريد ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول تقزيم دور الأحزاب السياسية في المجالس المحلية، بعد ثبوت فشل أغلبيتها في تسيير البلديات، والهدف من ذلك هو تشجيع المجتمع المدني على المبادرة والمشاركة في الحياة السياسية محليا، وهذه كانت احدى الحلول المقترحة من طرف السلطة على نشطاء "الحراك الشعبي"، أي دفعه للمشاركة في الحكم عن طريق دخول الانتخابات بدل الخروج في مسيرات تنتقد النظام الحاكم أو تطالب برحيله، ومن هذا، تتضح الرؤية بشأن مشهد سياسي جديد قادم، أو بمعنى أدق، خارطة سياسية جديدة تريد السلطة أن ترسمها بعيدا عن الصورة النمطية التي ظلّت مرسومة في أذهان الناخبين الجزائريين طيلة سنوات حكم الراحل بوتفليقة.

والظاهر أنّ بعض الأحزاب الكبيرة على شاكلة الأفالان والأرندي، وهما حزبا الأغلبية في البرلمان، سيدخلان منكسران مفككان في هذه الانتخابات، خاصة الأفالان الذي يعاني من صراع داخلي بعد الإطاحة بالأمين العام للحزب مؤخرا، كل هذه التصدّعات ستأثر بالتأكيد على نتائج الانتخابات، أي أن حظوظ هذه الأحزاب غير مضمونة، مما قد يتيح الفرصة لتشكيلات سياسية أخرى أكثر حفاظا على قواعدها النضالية، كالأحزاب الإسلامية والأحزاب التي تسمى أحزاب صغيرة، أي، بمعنى آخر، قد تفرز الانتخابات المقبلة تلك الخارطة السياسية التي ترجوها السلطة، بحيث لا أغلبية لأي حزب، تماما مثل البرلمان بتركيبته الحالية، بعبارة أخرى، تريد السلطة خلق قوة موازية للأحزاب في المحليات، أي ابراز دور المجتمع المدني كبديل عن الأحزاب التي فقد الشعب الثقة فيها. ويمكن قراءة هذا على أنها خطوة ذكية من السلطة للقضاء على الحراك من خلال اشراك نشطاءه في تسيير المجالس المحية.