خروج الناس أمس في طرابلس، احتفالا بالمولد النبوي الشريف، بعد أربع سنوات من المنع والتضييق عليهم، هو حدث يحمل من وجهة نظري عدة رسائل:
الرسالة الأولى:
إن محاولات (أفغنة) طرابلس، ذهبت أدراج الرياح، رغم التمويل المادي الباذخ، والإرهاب المتغول الذي لا يعرف رحمة، ولا يعترف بقيمة.
فالاحتفال وحرص الناس على الحضور، بتلك الروح التي رأيناها، هو اعلان بأن أهالي طرابلس، وهم مزيج عجيب، أنتج فسيفساء ليبية بامتياز، متمسكون رغم الإغراء والتخويف بوسطية الإسلام، متسامحون، قد تنجح في اسكاتهم حتى حين، لكنك لن تنجح في سلخهم من هويتهم.
الرسالة الثانية:
إن الترتيبات الأمنية، تسير بشكل حسن، وإن شابها بطء، وهو ما سمح بتأمين احتفال كان طوال أربع سنوات في عرف من سيطر على العاصمة وحكمها بالحديد والنار، (كفر ورجس من عمل الشيطان)!
وإذا أضفنا لهذا المشهد،  الاحتفال الذي أقيم في زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر، بزليتن، والذي تم هدم ضريحه، وحرق زاويته ومكتبته، من قبل المسيطرين على العاصمة يومها، واعتباره وثنا من أوثان الجاهلية، ندرك مدى النجاح المتحقق، والذي لا نلمسه بسبب أننا جزء من الحدث، منغمسون في التفاصيل اليومية.
في رأيي قد يساعدنا تأمل ما حدث بالأمس في فهم الاستراتيجية المتبعة في معالجة الملف الأمني، وقوامها : استخدام القوة المفرطة مع من لا يرجى إصلاحه كما رأينا في معارك تحرير سرت من الدواعش.
واستخدام سياسة الاحتواء، تارة، والتلويح بالعقوبات الدولية، تارة أخرى، مع من يرجى إصلاحه، ولم يعلن تكفيره للمجتمع أو يجاهر بعدائه لبناء الدولة التي ننشد جميعا.
إذن نحن أمام ميزان دقيق، يقوم على موازنة بين متى نستخدم القوة المفرطة، ومتى نستخدم الاحتواء، وكيف نحقق المصلحة مع التقليل من عواقب المفسدة.
وهنا استحضر موقف الإمام علي كرم الله وجه، في تعامله مع الخوارج، وقد اتهم بالمناسبة يومها بالجبن وغيرها من النعوت.
الرسالة الثالثة:
ظهور السراج في الحفل، ومشاركته الناس، لم يكن في رأيي ترفا، وإنما التأكيد على الرسالتين السابقتين، إن الرئاسي لا يتبنى الفكر الخارجي (الذي تم استيراده مؤخرا تحت شعارات براقة)، وإن الدولة التي ينشد اقامتها، هي تلك التي تحترم حريات الناس، وتحميها، وإن التكفير منهج مرفوض، وإن الهوية الوطنية بتنوعها هي ما يجب تعزيزها ودعمها.
كما أكد ظهور السراج بين الناس إن الوضع الأمني بدأ يأخذ منعطفا جديدا، وإنه يقترب من أن يكون تحت السيطرة الكاملة، فرغم فتاوى التكفير للحفل والمحتفلين التي انطلقت من بعض منابر العاصمة طرابلس، ورسائل التهديد والوعيد، لم يكتف السراج بورقة تحمل توجيها للداخلية بتأمين الاحتفالات، بل يحضرها بنفسه في ساحة مفتوحة، يحتاج تأمينها لإجراءات معقدة، وقد سبق له أن بقي في طرابلس عندما حاصرتها نذر الحرب، وبدأ دك جنوبها بالأسلحة الثقيلة، وتطاير شرارها حتى وصل إلى مقره في طريق السكة، فلم يغادر ولم يتنصل من مسؤولياته.
وهنا استذكر مسؤولين ليبيين تركوا مواقعهم عند أول خطر لاح في الأفق، ورغم أن بعضهم يحمل جنسية دول نافذة، توفر لهم الحماية.
ختاما أرى أنه من المهم، وهو دور غائب عن الاعلام، أن نتذكر ونذكر أنفسنا كيف كنا عام 2014م، وكيف أصبحنا، وما هو المخاض الذي مر بنا طوال هذه السنوات، من مناكفات سياسية، وحروب عبثية، واستهتار، وانفلات، وسعي حثيث لإدخال العاصمة في حرب دمار شاملة، كل هذا وغيره لو مر عشره ببلد آخر، لأصبح نسيا منسيا.
الوضع ليس مثاليا، ولكنه يسير نحو التحسن التدريجي، وإن كان بطيئا.


الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة