برهان هلّاك

يُنظر لعضو تنظيم الإخوان المسلمين (وهو شرف لا يدّعيه لا هو ولا إخوانه في الفرع التونسي للتنظيم) رضوان المصمودي على أنّه أحد أبرز القادمين من المجتمع المدني أو الطبقة السياسية أو عالم الإعلام، و الذين "ميّزوا"، من خلال نشاطهم أو نفوذهم، التحول الديمقراطي الذي بدأ بعد انتخاب المجلس التأسيسي قبل حوالي عشر سنين مضت. و في معرض تحديده لهوية الرجل، يورد مقال جون أفريك بتاريخ 4 نوفمبر 2013 موجزا يقول فيه بأن رضوان المصمودي قد أوصد الباب وراءه عند مغادرته لحركة النهضة الإسلامية، سنة 1994، إذ عاب عليها، في مثل ما يعيبه الأخ على أخيه، عداوتها للغرب و غموضها تجاه المتطرّفين، الذي هم في بعض الأحيان يمثلون ومضات استرجاعية تذكّر الشيخ المؤسس بشبابه. ومع ذلك، ظل رضوان المصمودي، البالغ من العمر 57 عامًا، أحد أكثر المؤيدين ولاءً لحزب راشد الغنوشي. كما أنهّ كان مؤسّس مركز دراسات الإسلام والديمقراطية المموّل من قبل وزارة الخارجية الأمريكية، وهو ما ليس مستغربا باعتبار أنه أحد أعضاء جماعات الضغط البارزين، فباستخدام دفتر عناوينه الثري بعد فترة عيش في الولايات المتحدة فاقت الثلاثين عامًا قضاها في " بناء الجسور بين الإسلاموية والديمقراطية"، استطاع الرجل وضع قادة حركة النهضة الإسلامية على اتصال بمسؤولي الإدارات الأمريكية المختلفة.

ويحضر رضوان المصمودي في مقالنا هذا باعتباره تكثيفا دلاليا لكيفية اشتغال العقل الإخواني من خلال تقاطعات مهمة لكيفيات اشتغال هذا العقل و ذلك في تدقيق بسيط في تدوينته على حسابه الشخصي على فيسبوك و الذي جاء فيها ما يلي "عآآآاجل: الخارجية الأمريكية تطالب تونس رسميًّا بتركيز المحكمة الدستورية و استكمال المؤسسات الدستورية والديمقراطيّة…"في إشارة لمسألة الحسم في قانون المحكمة الدستورية بتونس والمتعطل بسبب رفض رئيس الجمهورية، قيس سعيد، ختمه حتى يصبح ساري المفعول. وقد اعتبر بعض المراقبين والناشطين السياسيين مثل هذا "التهليل لتعليمات أمريكية" و"الغبطة الجيّاشة بتدخل أمريكي في شؤن داخلية تونسية "مؤشرا على" ارتباط الرجل بدوائر أجنبية ينفذ تعليماتها و يستقوي بها في معارك سياسية داخليه لا تعني سوى أبناء الوطن التونسي". ومهما يكن من أمر هذه الاتهامات، فإن رضوان المصمودي لا ينكر أنه حلقة وصل ساهمت في "توضيح صورة العمل السياسي الإسلامي "بتونس لصناع القرار الأمريكيين وعمله على مصالحة الإسلاميين مع الأحزاب الأخرى في إطار تجارب صنع السياسات المدمجة للعلمانية بالإسلاموية في حكومات ما بعد ثورة 14 جانفي 2011 ( يظلّ أبرز مثال على ذلك حكومة الترويكا التي جمعت حركة النهضة الإسلامية بحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل من أجل العمل و الحريات المدنيّين). وبالنظر إلى ما أورده موقع ويكيليكس سنة 2016 بنشره تقارير سرية من وكالة مخابرات أمريكية ستاتفور تأتي مكتوبة نيابة عن هذه الوكالة من قبل الإسلامي رضوان المصمودي، رئيس مركز دراسات الإسلام والديمقراطية وأحد أقرب مستشاري راشد الغنوشي رئيس حزب حركة النهضة الإسلامي.تساءل البعض في تلك الفترة عما إذا كان المصمودي متعاونا مع حكومة العم سام أم هو عميل لها، ليجيب ويكيليكس بأن ذلك مؤكد وعلى مدى سنوات طويلة (و لا تزال التقارير التي تم نشرها موجودة للاطلاع عليها(.

إن ما تقدّم يثبت أن العقيدة الإخوانية، التي يجاهد المنتسبون للفرع التونسي للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين التنصل من أحكامها منذ سنة 2013 بالتحديد، هي عقيدة مخترقة للأقطار يكون الولاء في إطارها للتنظيم و للإخوان طالما هم إسلاميون عوض الولاء للوطن الذي هو عرض زائل يجري دائما التخطيط لإزالته بإقامة دولة الخلافة القائمة على الإنتماء الديني للإسلام، أو بالأحرى للإسلاموية.

و لكن الإخوان، بإعتبارهم أكثر من يبرع في ممارسات التورية الخطابية المبتذلة، والتي تكون وقودا يذكي به شيوخ طرقهم عزائم مريديهم، فقد نجحوا مرة أخرى في قلب حقيقة هذه الدعوة المقنعة لإحراج الإدارة الأمريكية ودفعها للتدخل من أجل الضغط لإرساء محكمة دستورية ستكون بمثابة سيف يجهز على المكسب الإعتباري لرئاسة الجمهورية التونسية في ظل صلاحيات محدودة جدا لا تخول له مواصلة المعركة المحتدمة بينه و بين حركة النهضة و مشتقاتها (وهو ما يعيه جيدا الرئيس قيس سعيد و ذلك ما يدفعه لرفض ختم هذا القانون)؛ تطالعنا توضيحات قدمها الإخوان التونسيون بمختلف مراتبهم القيادية، فرضوان المصمودي قال بأن تدوينته تلك لا تعني دعوة الإدارة الأمريكية للتدخل في شأن سيادي داخلي تونسي، قائلا بأنّ من "هلّلوا لترامب عندما وعد بتصفية الإخوان" هم نفسهم من " ينددون اليوم ببايدن الذي ضغط لتركيز المحكمة الدستورية " معتبرا أن مثل هؤلاء تحضر السيادة عندهم و تغيب. وإن المغالطة لتشوب هذا القول و تجعله غارقا في فساد لغوي بقصدية مغالطات وكذب يغذّي مفاهيم وحجج خاطئة تغذي بدورها المزيد من الأكاذيب ليظل الدائرون في فلكهم في حلقة جهنمية لا يحيون فيها ولا يموتون

فالمغالطة الأولى في تحميل ترامب مسؤولية النية في تصفية الإخوان فهو لم يبتغ تصفيتهم، بل ذلك نتاج إحباط إخواني من سياسة ترامب التي لم تلق بالا لملف الإخوان، خاصة في مصر حيث لم يضغط من أجل إبطال الأحكام القضائية الصادرة بحقهم هناك و لم يُستثر فيه الحس الإنساني، كما يراه الإخوان، و لم يطالب الرئيس المصري بإبطال أحكام الإعدام.

و أما المغالطة الثانية التي تنم عن غباء، أو سوء تقدير وتدقيق للمنطوق في أفضل الأحوال، هو مثل تلك الحرقة على إخوان تنكروا لأخوتهم منذ سنين طوال ومؤتمرات فصل للدعوي عن السياسي خلت، و لكن هذه مثل هذه الحرقة و التفجع يثبت أن الحب في الله للأخ الأوّل وأن الطبع الإخواني يغلب التطبع بالانتماء الوطني والمدنية والدعوي المفصول عن السياسي.

و أما المغالطة الثالثة فتبرز من خلال ما صرح به رئس حركة النهضة الإسلامية حينما قال بأن ضغط الرئيس الأمريكي بايدن دليل على " ما يحظى به الانتقال الديمقراطي في بلادنا من تثمين دولي " (تصريح له لإذاعة موزاييك اف ام التونسية)؛ ليس من الوارد أبدا أن يضغط الرئيس بايدن في مثل هذه المسألة لأنها ببساطة لا تعنيه، و لكن في إطار لقاء بين رئيس الحكومة و ثلة من النساء تتوسطهم القيادية بالنهضة السيدة لونيسي مع نائبة وزير الخارجية، " اشتكت " لونيسي لوزيرة الخارجية من تعطيل الرئيس قيس سعيد للمحكمة الدستورية، فأجابتها الأخيرة بالقول بكلام عمومي منمق، كدأب الخطابة الأمريكية اللبقة و ذات منسوب الصوابية السياسية العالية، بأن المحكمة الدستورية ضرورية للبناء الديمقراطي ( قاعدة عامة تنطبق حتى على المثال الأفغاني في إطار الصراع على بناء المؤسسات مع مجلس القبائيل اللويا جيرغا! ). أما غير المنطوق في طيات هذه الإجابة هو النأي بالإدارة الأمريكية عن التدخل في مثل هذا الشأن فهو لا يعني رئيس هذه الإدارة الجديدة، السيد جو بايدن، الذي يواجه تحديات اقتصادية و يستعد لخوض مغامرات تمويلية و جبائية غير مسبوقة في تاريخ الرؤساء الديمقراطيين وتاريخ الولايات المتحدة إجمالا (سياسته في ترفيع الضرائب على كبرى الشركات دعما لأكبر خطة إنقاذ وإنعاش اقتصادي)، بالإضافة إلى حقيقة الضغوط التي يواجهها الديمقراطيون من قبل الجمهوريين في الكونغرس و هو ما يجعل أي تدخل في شأن داخلي لأي بلاد غير ذي نفع مباشر بمثابة الفرصة للانقضاض على منظومة ما بعد إنتخابات 2020.

في المحصلة، يظل أعضاء فرع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين التونسي، من قبيل رضوان المصمودي، رهيني مقتضيات إنكار الانتماء الجيوسياسية المدفوعة بالخوف من الفناء، خاصة بعد ما أفرزته مجريات الأحداث في مصر سنة 2013 ونجاح النظام المصري إلى حد بعيد في اجتثاث التنظيم  (وهو ما دفع بإخوان تونس إلى المراهنة على وجودهم قطريّا، أي داخل القطر التونسي مخافة الفناء و الاضمحلال في تلك الفترة). كما يظلّون مدفوعين إلى إبراز جانب الانتماء الإخواني أحيانا و ذلك إما لغايات كسب التعاطف الإنساني أو تعاطف الجهات المانحة في الحصول على التمويلات التي تبقي مثل هذه التنظيمات حيّة و فاعلة، أوبفعل بعض الحمق و زلات اللسان الكاشفة التي عادة ما تعكس تصعيدا عن تتعلق بالتمكين وإقامة الخلافة الإسلامية و التطلّع إلى الوحدة في إطار التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي باتت إعادة بناءه من مثيل فانتزمات تأسيس الخلافة الإسلامية السادسة التي بشّر بها القيادي الإخواني التونسي، حمادي الجبالي، ذات صيف قائظ عندما كان بصدد استثارة رغبات جموع كانت حاضرة، في مفارقة عجيبة، في اجتماع حملة انتخابية تخضع لأحكام قوانين وضعيّة و في سياق تأسيس لدولة ديمقراطية مدنية.