إنخفض الدولار ولم تنخفض الأسعار ولن تنخفض أبدا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، ذلك أن الأمر ليس رهينا بإرادة صغار التجار وأصحاب الدكاكين و " الطراحة " في سوق الرشيد وطريق الهضبة حيث تباع السلع الغذائية والمواد الإستهلاكية بعيدا عن أية رقابة غير رقابة رب العرش العظيم .. 
عند هذه المعدلات القياسية العالية يبدو أن كبار لصوص الإعتمادات والمال العام قرروا إبقاء الأسعار ..ولم يتبق سوى رفع الدعم عن المحروقات حتى يعود شكل الحياة في ليبيا إلى سيرته الأولى قبل تطبيق السياسات الإشتراكية والدعم الإجتماعي ..حيث ستظهر من جديد وبفجور أشد قبحا ثنائية " البي .. و الزوالي ".. و " اللا .. والخدامة ".. 
لم يكن للتفاوت المعيشي بين الليبيين أيام الملكية غير المأسوف عليها علاقة بفقر الدولة ومحدودية الموارد، فبينما كان 99 % من أبناء الشعب في الأرياف والمدن والبوادي ، يقتاتون على "الجراد" و"القازول" و"البلبوش البري" ، كان القلة المختارة من طبقة الحكام والنواب والوزراء وكبار رجال البوليس وصبيان هويلس والمعمرين الطليان ، يقضون إجازة الشتاء في مصر المحروسة وإجازة الصيف في فنادق ساحة " البيكاديللي ".. 

واليوم - في هذه اللحظة الفبرايرية المتوحشة - لن يكون لقيمة العوائد النفطية ومشاريع إعادة الإعمار المنتظرة أي دور في تغيير المعادلة المختلة والتفاوت غير الحلال وغير القانوني بين مستوى الترف الذي يعيشه صاحب شركة الأجنحة للطيران على سبيل المثال ، وبين بؤس الذل الذي ترسف فيه السيدة " أم أشرف " وهي تستجدي عمي الهادي على الهواء مباشرة عبر قناة الرسمية من أجل بضعة دنانير من فاعل خير لترقيع سقف بيتها المنهمر بالمطر والصقيع على رؤوس أطفالها .. إنها فبراير تحقق أهدافها كما أراد من مولها وخطط لها.. 

تخفيض سعر العملة الصعبة عبر إيجاد سعر مواز لسعر الصرف الرسمي ، الأمر الذي تسوقه حكومة التوافق وإدارة مصرف ليبيا المركزي كأساس لسياسة الإصلاح الإقتصادي الموعودة ، لا يراه كثيرون أكثر من صفقة لمقايضة فاسدة بين رموز الرأسمالية غير الوطنية ممثلة في كبار التجار و الموردين وزعماء منظمات الحرابة والتهريب ، وبين إدارة الوصاية المكلفة بتصفية الأرصدة الليبية من العملة الصعبة..أي الدينار المحلي مقابل الدولار الأمريكي ، في سياق المحاولة البائسة لحل مشكلة الشح الذي تعانيه البنوك في العملة الليبية وتخدير طوابير التعساء المصطفين ليلا نهارا أمام شبابيك الصرافين إنتظارا لحفنة دنانير من مدخراتهم ورواتبهم ..والضحية دائما إقتصاد البلاد وأهل البلاد الذين صاروا كالأيتام على موائد اللئام.. 

شخصيا أعتقد أن معاناة السواد الأعظم من الليبيين ستستمر عقودا حتى في حالة سمح لهم بإستعادة الأمن والإستقرار والدولة والمؤسسات ،وبغض النظر عن طبيعة وشكل النظام السياسي الذي سيختاره الناخب المحلي تحت رعاية دولية سامية فإن العلاجات التي سيحتاجها الإقتصاد الليبي للتعافي ستكون قاسية وطويلة ولن يتحمل أحد - لا من المجتمع الدولي ولا من زمرة حزب المنتفعين المحليين - كلفة وفواتير هذا العلاج ..من سيدفع الفاتورة هو الموظف المكبل بقانون الخدمة العامة ، وسائق التاكسي ، والتاجر صاحب دكان البقالة الصغير ، والمتقاعد ، والعامل والحرفي ،والمزارع وكافة الشرائح والفئات التي تنتمي لقبيلة محدودي الدخل ..

للأمانة فإن تحديد هوية الإقتصاد الوطني في عالم اليوم لن يكون مرتهنا لرغبة وإرادة السلطة المحلية في ليبيا أو في غيرها من البلدان التي فقدت البوصلة في عاصفة " الربيع العربي " لكن ستحددها طبيعة الوظيفة المرتقبة لكل قطر في المشهد الإقليمي العالمي الجديد..والذين يرسمون تفاصيل وهوامش الحياة الإقتصادية للمجتمع الليبي يعون جيدا أن القرار السياسي الذي يمكن أن يؤثر في سيرورة وصيرورة المستوى المعيشي لإنسان هذه الأرض لن تملكه حكومة معينة بالتوافق الدولي أو القبلي / الجهوي ، أو حتى حكومة منتخبة بالإقتراع السري المباشر.. وستكون مفاهيم ومصطلحات مثل العدالة الإجتماعية ودعم الفقراء وحق المواطن في ثروة بلاده مجرد شعارات إنتخابية رائجة في ظل عرس الديمقراطية الليبرالية البهيج ..

 هناك منهجية ثابتة لإجبار المجتمع الليبي على الإرتماء في أحضان الوحش الرأسمالي المرسل العنان حتى من بعض الكوابح " الكينزية" التي جربتها أوروبا ماقبل "الثاتشرية" وسقوط المنظومة الشرقية..وبعد تدمير القطاع العام في مجال الرعاية والخدمة الصحية وجر المريض الليبي جرا من رقبته لمذبحة العيادات الإستثمارية ، سنشاهد في القريب العاجل تدميرا مماثلا للتعليم العمومي وأخذ أبناء الليبيين من الفقراء جبرا قهرا إلى المدارس الخاصة ..

كاتب ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة