عبد الستار العايدي

فشل راشد الغنوشي بعد التنازلات التي قدمها ليضمن دعما عربيا ودوليا ضد الإجراءات والتدابير التي إتخذها قيس سعيد بعد تاريخ 25 جويلية 2021، وبعد عزل عدة قيادات من طرف رئيس الحركة ليقدّم نفسه أنه الضامن الوحيد بأن الطرف الإخواني في المشهد التونسي، وأنّ حركته من محددات التجربة الانتقالية الديمقراطية التونسية الناشئة، وفي بحثه كذلك عن حزام سياسي تونسي يضمن له النجاة من الغرق في صراع فوضوي مع الرافضين  لممارساته طيلة عشرة سنوات مضت من أنصاره وعامة الشعب .

وفشل مرة أخرى بعد أن غرقت الحركة نفسها في سيل استقالات متتالية أفاضت مستنقعا داخليا كان فيه الصراع السري داخل الحركة والذي دام سنين طويلة أهم تفصيل، صراع بين السعي من خلال أفكار بعض قياداتها لتمزيق أوصال أي جسد سياسي قد يكون عدوا لها مستقبلا في بحثها عن طرق سريعة للاستحواذ على مجامع السلطة في تونس، وقيادات أخرى ترى أن فردانية التوجه السياسي سيقود بالضرورة إلى سقوط الحركة وإندثارها تدريجيا في خضم دائرة الأعداء السياسيين التي تحيط بها وتحجيم دورها من خلال قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيد.

صراع تمثّل على أرض الواقع، بقيام مائة وثلاثة عشر قياديا بسحب البساط الأميري من تحت أقدام الغنوشي الذي بات "خليفة الأمين العام لتنظيم الإخوان المسلمين الدولي" يقود حركة سياسية خالية من معظم القيادات التي ساهمت في رفع شأنه على المستوى العربي أو الدولي. لم يتعلّم راشد الغنوشي من الخطأ الذي وقع فيه مؤسس تنظيم الإخوان المسلمين حسن البناّ حين لم يدرك أن مسيرته ستنتهي على أيدي أتباعه ومريديه الذين آمنوا بفكرته ومشروعه وساروا في ركب جماعته.

يرى بعض المتابعين للشأن السياسي في تونس أن نهاية الإخوان المسلمين الممثلين في حركة النهضة بعد هذا الكمّ من الاستقالات قد باتت وشيكة على ضوء ما يحدث اليوم من تمزّق أوصالها الداخلية التي كشفت عن إنفصام سياسي داخلي كان يقبع بين كهوف أجهزتها الداخلية العلنية والسرية، وإهتراء السياسات المتّبعة من طرف رئيس الحركة وزمرة أعوانه المقرّبين وإرتباط منهجها بمخالفة القول العلني وتطبيق ما بطن من القرارات لتوجيه الرأي العام وهدم بعض مكونات الدولة الحديثة للتغلغل داخلها تحت شعار "مدنية الحركة"، وأنها حركة تخلّت عن خطها الثاني الدعوي وإلتزامها بالخط السياسي، وأن ذلك لم يمنع من تقهقر شعبيتها السياسية داخل النخبة التابعة لها أو داخل الأوساط الشعبية التي تفتقد الوعي السياسي الناضج وتحتكم في علاقتها مع الحركة إلى المعطى الديني الذي وضع راشد الغنوشي أفكاره على رفوف البراغماتية السياسية .

قد لا يكون التوجه نحو التصديق الكامل بنهاية الإخوان أو زوال حركة النهضة أكيدا وذلك لسببين، أولا أن حركة النهضة لازالت تقوم على المرجعية الأساسية للتنظيمات الإسلامية السرية التي شهدها العالم العربي والإسلامي، والدليل الخلاف القائم بين رئيسها وقياداتها حول تحديث توجهاتها عبر مراجعات جذرية للمرجعيات الفكرية التي تنهل منها الحركة رغم ما يظهر للعيان من إنسحاب تكتيكي للقيادات القديمة أو "الصقور" التي تسيطر ضمنيا على كل قرارات راشد الغنوشي، كما أن المراجعات العميقة لمناهج العمل المتّبع سيفقد الغنوشي وزنه السياسي داخل التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، خاصة في خضم الصراع الدائر داخله بين أمينه العام ومرشد الإخوان المصريين وإتهام البعض لإبراهيم منير بالسيطرة على قرارات معظم رؤساء الحركات التابعة للتنظيم، كذلك سيهدّد إرتباطه الوطيد بكل حركات تنظيم الإخوان المسلمين حول العالم وخاصة إرتباطات الحركة مع الأوساط الإخوانية التركية.

ثانيا، أن إفصاح عدد من المستقيلين من حركة النهضة أن ما أقدموا عليه ليس تخلّيا عن توجهات الحركة في كل مناهج عملها أو الفكر الإخواني عامة، ولكن رفضا لديكتاتورية القرار السياسي وحصر الحركة في شخص رئيسها راشد الغنوشي الذي حمل شعبيتها إلى الحضيض في فترة لم تتجاوز عشر سنوات من العمل السياسي العلني في تونس وهي في سدّة الحكم. وأنّ البعض منهم قد أنكر أيضا التوجّه إلى تأسيس حزب سياسي أو حركة جديدة تحمل الفكر الإخواني وتنافس حركة النهضة على وجودها المتضائل تدريجيا داخل المشهد السياسي التونسي. ورغم إعلان سحب البيعة من راشد الغنوشي كرئيس للحركة إلا أن البيعة للحركة ولفكر الحركة لازال قائما مما يفضي إلى أن أغلب المنتفضين المستقيلين لازالوا يحملون بين أفكارهم أفكار التنظيم الإسلامي السري مع مراجعات بسيطة من أجل التداول على القرار السياسي.

إحالة واضحة على أن ما حدث داخل حركة النهضة يدخل تحت باب التكتيك السياسي في ظل التساقط السريع لكل الأوراق التي وضعتها قيادة الحركة المتفرّدة بالقرار على طاولة المفاوضات مع رئاسة الدولة أو مع الأطراف السياسية الأخرى ورفض الشق الأكبر من المجتمع المدني تواصل الحضور الإخواني عامة، كذلك بعيدا عن القول بلجوء بعض القيادات إلى إغتيال راشد الغنوشي وتوظيف ذلك سياسيا مثل ما حدث مع حسن البنا، لأن ذلك سيضع الحركة ضمن مأزق سياسي أكبر داخليا وضمن حالة التشرذم والتقاطعات المدمّرة والتي فعلا ستنهي الوجود الاخواني في تونس بكل تفاصيله.

كما أن الأبجديات الجديدة التي فرضها قيس سعيد على المشهد العام، دستوريا وسياسيا، كان من الأفضل لحركة النهضة أن تفتعل حالة التشرذم والتفكك من أجل معالجة آثارها بدل إنتظار حالة سياسية تقارب ذلك وتفقد ومن ورائها كل قيادات الحركة المصداقية السياسية والشعبية . وحين الأيام المقبلة وفي إنتظار تشكيل الحكومة الجديدة ما ستفصح عنه كل حركة النهضة ومن إنفصل عنها من أفكار قد تثبت أن الفكر الإخواني لازال يتمعش من بقاياه.