برهان هلّاك

أصدرت محكمة مدينة سبها بالجنوب الليبي حكما بعودة سيف الإسلام القذافي للسباق الرئاسي، وفقا لما صرّح به محاميه يوم الخميس، في وقت يحتدم فيه الجدل حول مسار انتخابات تهدف لإنهاء عقد من الآلام و العذابات و العبث الدموي. و كان طعن سيف الإسلام على قرار استبعاده من الانتخابات التي تجرى في 24 ديسمبر 2021 قد تأجّل لأيام بعد أن منع مسلحون فريقه من الوصول للمحكمة في واحدة من عدة وقائع تثير المخاوف من اضطرابات محتملة خلال عملية التّصويت. كما قال شهود عيان بأن أعدادا هائلة من أنصار نجل الزعيم الرّاحل معمر القذافي قد احتفلوا في الشوارع في أنحاء مدينة سبها بعد أن أعلن محاميه قرار المحكمة بقبول الطعن و عودته إلى السباق الرئاسي الليبي.

و تتردد منذ سنوات الروايات عن سيف الإسلام القذافي و اعتقاله و وفاته. و قد عاد للواجهة في موضع أول من خلال المقابلة الشهيرة مع مجلة النيويورك تايمز الأمريكية، مقدّما رؤيته للعالم، ولأول مرة، منذ اعتقاله إبان الحرب في ليبيا. أما الآن فهو يعلنها صراحة و في تحدٍّ جبار: أنا موجود في ليبيا، حر طليق، و قد صار سجّاني هم حرّاسي وأصدقائي، بعد أن تحرّروا من وهم الثورة كما قال هو ذاته. و ها هو يتقدم بخطى ثابتة نحو رئاسة ليبيا يبتغي تضميد جراح غائرة ما فتئت تنهك البلد منذ سنوات.

إن الدكتور سيف الإسلام، بما هو إمتداد بيولوجي و جيني للزعيم العقيد الراحل معمر القذافي، لهو أبرز المترشحين للرئاسة في ليبيا، فهو تكثيف رمزي للقطيعة مع عشرية سوداء معبّدة بالدم والآلام و تراكمات النزاع بين الإخوة و الدمار الشامل. و لا يتوانى سيف الإسلام عن التذكير بوقوفه في وجه الإنتهاكات الخارجية من دول لها نفوذ أو تأثير جزئي، عربية أو أخرى من قبيل تركيا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة؛ لم، و لن يقبل سيف الإسلام إعتذارات واهية يقدمها قادة الدول الأعضاء في حلف الناتو عن التسبب " على وجه الخطأ " في موت مدنيين خلال قصفهم ليبيا سنة 2011، بل و هزئ بما أسماه قادة هذه الدول " مراجعات " و " اعترافات " بوجود أخطاء خلال حربهم الغاشمة على ليبيا التي شنّوها متوسّلين ذرائع واهية.

و يعد سيف الإسلام الليبيين، كل الليبيين، بمن فيهم أولئك الذين لم يقاومو الخراب الذي أصاب بلادهم، بمستقبل من الأمن والاستقرار والعيش الكريم، طالبا منهم المساندة في تأسيس جديد للمجد الليبي بعد عقد من الفوضى وحكم الجماعات المتناحرة والتدخلات الأجنبية؛ يقف سيف الإسلام القذافي رمزا لدحر الانهيار التام وتقسيم البلاد نتيجة اقتتال الزعامات و سعيا لاسترداد ليبيا و توحيدها وطنا مهيبا لكل الليبيين.

و يستمدّ سيف الإسلام القذافي ميزة سياسية من إسمه و تاريخه، فهو الآن أطهر مرشّحي الرئاسة ذمة و أنظفهم يدًا، و ذلك في الوقت الذي وضع فيه منافسوه السياسيون الآخرون أنفسهم موضع شبهات في السنوت الأخيرة باستغلالهم لنفوذهم لتحقيق مكاسب شخصية أو بعلاقاتهم مع حملة السلاح الذين اعتُبروا ذات يوم أبطال الثورة. لا بل يَعتبر كثيرٌ من الليبيين أن عودة سيف الإسلام هي السبيل لإنهاء عقد من الزمن ضاع هدرًا. ولطالما كان سيف الإسلام لغزًا محيّرًا، فقد علّق الناس في الداخل والخارج آمالهم عليه بوصفه وريث أمجاد الزعيم الراحل معمر القذافي. وهي فكرة قد عمل على تعزيزها عندما أسّس مجموعة إعلامية أطلق عليها اسم  "ليبيا الغد " لتطوير مشاريعه الرائدة. ومع أنه لم يكن يشغل منصبًا رسميًّا، فقد دلّل العقيد معمّر القذافي على أهميته بتفويضه للتوسط في نزاعات دبلوماسية رفيعة المستوى، من بينها قضية التعويضات التي دفعتها ليبيا عن تفجير رحلة " بان آم 103" فوق مدينة "لوكربي" في اسكتلندا عام 1988.

وتشير بيانات استطلاعات الرأي في ليبيا إلى أن قطاعًا عريضًا من الليبيين (57 بالمائة في منطقة واحدة في بعض الأحيان حسب النيويورك تايمز) قد عبّروا عن ثقتهم بسيف الإسلام القذافي. كما أكدت محامية ليبية أن عملها غير الرسمي لقياس الرأي العام يشير إلى أن ثمانية أو تسعة من كل عشرة ليبيين سيصوّتون لسيف الإسلام. و تترجم هذه الثقة في شخص الدكتور سيف الإسلام القذافي رفضا للحكومات المختلفة التي حكمت البلاد و مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي و الحكومي في ليبيا. بل و يؤكد العديد من الليبيين أن إئتمان نجل الزعيم الراحل معمر القذافي على الرئاسة سيضرب رغبات القوى الغربية التي لا تريد خيرا بليبيا، إذ ليس من مصلحة هذه القوى أن تكون لليبيا حكومة قوية و رئيس قوي كسيف الإسلام حسب ما يوضحون، ولذا فهم يخشون الانتخابات و يريدون إقصاءه من السباق الرئاسي. و تؤكد شرائح عريضة من الليبيين على أن سيف الإسلام القذافي هو الوحيد القادر على تمثيل الدولة التي تجمع تحت رايتها جميع الليبيين، و تدحر التدخل الأجنبي الذي يعارض فكرة وجود رئيس ودولة وحكومة ذات شرعية مستمدة من الشعب.

و يقول الصحفي الشريف الزيتوني أنه، و بالعودة إلى رمزيــة الأبطــال في الأفلام والروايــات، يكــون الدكتور ســيف الإسـلام هــو البطــل الـذي تجسّـدت حولـه لحظـة الظلـم، لكنـه يقفـز عليهـا بإصــرار المتحــدي الــذي يعــرف أن التاريــخ دائمــا مــا ينصـف أهـل الحق وأن إرادة النـاس أقـوى مـن قفـزات المندفعين و ضيّقي الأفق. و مــا الآيات القرآنية التــي تلاهــا لحظــة تقديمه لترشــحه إلا ثقــة منــه في أن العــدل بــاق مهمــا حــاول المعرقلــون إســقاطه، وأن صــوت العقــل ســيكون أعلــى مــن كل أصــوات التشــويش التــي تقفــز علــى ســطح الأحــداث.  

و إنه لمن المثير للإعجاب ما نقله الصحفي بمجلة النيويورك تايمز خلال المقابلة الشهيرة التي جمعته بسيف الإسلام في 30 جويلية الفارط، و بالتحديد وقوفا عند قوله أن الرجال الذين كانوا حرّاسه هم الآن أصدقائه، و ذلك لأنه رجلٌ حرٌّ  فصيح يحذق فنون الخطابة و بليغ و مقنع في تفسيره " وهْم الثورة " للمقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات، ليدركوا في نهاية المطاف أنه على حق و أنه ذو بصيرة و مصيب في التنبؤ بما تعيشه البلاد في الوقت الحالي. و لذلك فإنه، حتى و إن كان معرضا لعقبة كبرى خارج ليبيا (فهو مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية مزاعم بارتكابه جرائم ضد الإنسانية)، فهو الأقدر على إدارة ملف الخارجية و العلاقات الديبلوماسية لليبيا جديدة متماسكة ترابيا و موحدة سياسيا؛ يتجلى كل ذلك من خلال إئتمانه سابقا على ملفات تفاوض و حلحلة أزمات ديبلوماسية دولية دقيقة، إذ اختاره الزعيم معمر القذافي للوساطة مع الغرب بشأن بعض النزاعات التي تم توريط ليبيا فيها، بما في ذلك تفجير “لوكربي” الذي تسبب في مقتل 270 شخصًا. كما أن أكثر اللحظات فخرًا في مسيرته السياسية قبل عام 2011، حسب ما يؤكده الدكتور نفسه، كانت وساطته في سنة 2009 لإطلاق سراح ضابط المخابرات الليبية عبد الباسط علي المقرحي، وهو المُدان الوحيد في قضية تفجيرات لوكربي. بالإضافة إلى ذلك، فقد لعب دورا هاما على الساحة الدولية سنة 2000، عندما فاوضت "مؤسسة القذافي" التي أسسها عام 1997 من أجل الإفراج عن رهائن غربيين محتجزين لدى مجموعة من المتطرفين الإسلاميين في الفلبين. بالإضافة إلى الوساطة التي قام بها في قضية الفريق الطبي البلغاري الذي أُفرج عن أفراده (خمس ممرضات وطبيب) في شهر جويلية من سنة 2007، بعد أن أمضوا ثماني سنوات في السجن في ليبيا إثر اتهامهم بحقن أطفال بفيروس نقص المناعة البشرية في مشفى ليبي.

و مهما يكن من أمر الانتخابات، فإن ليبيا و الليبيين يستحقون مصيرا أفضل و مستقبلا لا تغشاه العتمة، و هو ما يعدهم به سيف الإسلام القذافي، بعيدا عن صبيانيات باقي المترشحين و وعودهم غير القابلة للتحقق كما يحكم عليها الليبيون أنفسهم؛ لقد شاهد الدكتور سيف الإسلام بعينيه مقتل عدد من أفراد عائلته، و قضّى سنوات في سجن انفرادي، و بذلك لا يرقى شكّ إلى واقع المرارة و المعاناة اللذين عاشهما، و مع ذلك فهو لا يتوعد أحدا و لا يعلن نوايا انتقامية، و بذلك فهو ينأى بنفسه و بشعبه عن مزيد سفك الدماء.