مصطفى حفيظ

استغربت مثلما استغرب الكثيرون من محبي الأدب، اقدام جامعة إيطالية في ميلانو على منع اجراء دورة عن الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي، وذلك كعقوبة لروسيا على إعلانها الحرب على أوكرانيا أواخر شهر فبراير المنصرم، وبرغم أنها تراجعت عن القرار بعد انتقادات واسعة واجهتها، إلا أن هذه الخطوة كانت سابقة خطيرة في حقّ الأدب كظاهرة إنسانية جمالية تُقاوم الحروب وتنتصر للإنسان، لم يحدث في التاريخ أن كان الأدب ضحية للحرب، حتى فرنسا الاستعمارية لم تمنع أدباء الجزائر قبل الاستقلال من الكتابة والنشر، ولا حتى الجزائر والمغرب برغم خلافهما الحالي اقدمتا على مثل قرار جامعة في الغرب المتحضّر، فهل يُعقل أن نعاقب الأدب لمجرد أنه روسي؟

روسيا ليست بوتين أو حكومته وجنوده ودباباته وصواريخه وأسلحته النووية أو البيولوجية، روسيا أكبر من بوتين وجنونه، أكبر من فكرة الحرب نفسها، ولست هنا أثني على روسيا التي يقودها رئيس مجنون بالحرب إلى وجهة غير معروفة، ولست هنا كي أنصف أوكرانيا أو أن أعطي الحق لهذا أو ذاك، ففي النهاية، سواء أكانت أوكرانيا أو أي بلد آخر، فحق أي دولة في الدفاع عن استقلالها وسيادتها أمرٌ مشروع، وأوكرانيا دولة ذات سيادة يدافع شعبها عن أرضه، والقانون الدولي واضح، ولا أحد يحبّ الحرب حتى وإن كان البعض عندنا يهتف بها ويستميت في تمجيد ومباركة هذه العملية العسكرية الروسية، لكن ما شأن الأدب في كل هذا؟ هل لأن أصله روسي مثلا؟ 

أن تُعاقب الدول الغربية روسيا بعقوبات اقتصادية فذلك أمرٌ معمول به، مادامت لم تُعلن الحرب ضدها، ففي النهاية الحرب على الاقتصاد هي حرب أيضا وربما أخطر من حرب الصواريخ، لكن أن تُبالغ إيطاليا في عقوبة مثل تلك التي خرجت بها جامعة في ميلانو فهذا الذي يدعو للسخرية والحسرة أيضا، والجامعة الإيطالية التي أقدمت على هذا القرار هي جامعة "بيكوكا"، وكرد فعل على الغزو الروسي على أوكرانيا، أعلنت منع اجراء دورة عن أدب فيودور دوستويفسكي، عملاق من عمالقة الأدب الروسي، كعقوبة ضد روسيا، لكن هذا القرار أثار سخطا وغضبا في إيطاليا والعالم، مما اضطر الجامعة للعدول عن قرار المنع متحججة بسوء فهم لقرارها، وبدأ الأمر حين راسلت الجامعة الكاتب الإيطالي باولو نوري الذي كان مقررا أن يقدّم تلك الدورة وأبلغته بتأجيلها بسبب الحساسية التي قد يثيرها الموضوع بالتزامن مع الحرب، لكن الكاتب الإيطالي غضب من هذا القرار واعتبره محاولة للرقابة، ثم علّق قائلا: "في إيطاليا اليوم، يعتبر كونك روسيًا خطأ. وعلى ما يبدو حتى أن تكون روسيًا متوفى، (إذ) حُكم عليه، علاوة على ذلك، بالإعدام في عام 1849، وكانت قراءته أمرًا محظورًا"، ومهما كانت تبريرات الجامعة لقرارها فتلك الخطوة فهمها الجميع بأنها عقوبة للأدب الروسي برغم أن الأديب نفسه عانى من ويلات النظام القيصري.

لقد عاش الأديب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي في القرن التاسع عشر، ولد في 1821 وتوفي في 1881، أي في زمن روسيا القيصرية، عاش في زمن كان نظام الحكم فيه أكثر سوء من نظام بوتين العسكري، لكن مع ذلك، كتب وألف روائع أدبية تًصنّف ضمن الأدب العالمي، من أعماله الشهيرة رواية " الجريمة والعقاب" التي نشرها على أجزاء سنة 1866، والتي دافع فيها عن الفقراء وتحدث عن البؤس وانتقد الحكم والسياسة والاستبداد، من بين ما ورد فيها: "إذا كنت في البؤس فإنك لا تطرد من مجتمع البشر ضربا بالعصا، بل تطرد منه ضربا بالمكنسة، بغية إذلالك مزيدا من الإذلال،" وفي نفس الرواية قال أيضا:" أيها السيد الكريم، ليس الفقر رذيلة، ولا الإدمان على السُكْر فضيلة، أنا أعرف ذلك أيضًا، ولكن البؤس رذيلة أيها السيد الكريم، البؤس رذيلة."

ربما خطأ الجامعة الإيطالية الوحيد ليس منع تلك الدورة المخصصة للأديب الروسي، بل جهلها بمن يكون عملاق الأدب الروسي، هل كان المسؤول عن ذلك القرار في الجامعة يعلم بأنّ فيودور دوستويفسكي تأثر به فلاسفة وأدباء غربيون ذائعي الصيّت، خاصة أعماله ذات البعد الفلسفي، نذكر مثلا رواية "الاخوة كارامازوف"، وهي آخر أعماله، ألهمت أهم وأشهر الفلاسفة الألمان كمارتن هيدغر الذي تأثر بطرح الرواية للسؤال الوجودي للكينونة، حتى أنه قال بأنّ هذه الرواية كانت مصدر إلهامه لتأليف كتابه الشهير "الكينونة والزمان"، وليس هيدغر فقط من تأثر بهذا الأديب، بل حتى العالم النفساني الشهير سيغموند فرويد الذي اشتغل على شخصيات هذه الرواية لتفسير فكرته عن "عقدة أوديب"، وكان نيتشه وأينشتاين، ولودفيغ فيتغنشتاين من ضمن الفلاسفة المتأثرين بدوستويفسكي، وفي الأدب تأثر به الكاتب التشيكي صاحب رواية "المسخ" فرانز كافكا، وأثّر حتى في الفلسفة والأدب الفرنسي والأوروبي بشكل عام.

ربما لم يسبق أن تعرض أديب متوفي إلى عقوبة وهو في قبره، لذلك أثار قرار الجامعة الإيطالية سخطا محليا وعالميا، ومهما يكن، لا ينبغي أن يُحاكم كاتب ما بسبب جرائم أو أخطاء رئيس ذلك البلد الذي ينتمي إليه، هل الاعتداء الروسي على أوكرانيا كان بسبب تأثر بوتين بأعمال الأديب الروسي دوستويفسكي؟ أكيد لا، عندنا في الجزائر مثلا، لم يحدث أن صادرت فرنسا الاستعمارية في عزّ أيام الثورة الجزائرية بين 1954-1962 أعمال أي من الأدباء الجزائريين الذين كانوا يكتبون ويبدعون أعمالا أدبية انتقدت الاستعمار صراحة، لم يقم الاستعمار الفرنسي برغم جرائمه في حقّ الجزائريين بمعاقبة الأدباء أو أعمالهم، برغم كونهم كانوا أحياء في تلك الفترة، كآسيا جبار، أو محمد ديب أو مولود فرعون، وغيرهم، ولم يحدث أن لجأت السلطة في الجزائر أو حتى نظيرتها في المغرب مثلا، برغم خلافاتهما المستمرة سابقا واليوم، مع قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، إلا أنهما لم يمنعا الأدب أو يصادرا أعمال الروائيين والشعراء والكتّاب سواء في الجزائر، أو في المغرب، إذن، بالنتيجة، لا ينبغي أن يكون الأدب ضحية للحرب.