برهان هلّاك

يُعتبر عيد العمال من الأعياد الأكثر انتشارا في العالم، إذ يتم الاحتفال به في 130 دولة تقريبا في يوم عطلة رسمية. ويعود تاريخ الاحتفال بأوّل "عيد شغل" في تونس إلى سنة 1946، تاريخ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، ليتم إقراره عيدا رسميا عام 1948. يمكن القول يوم عيد الشغل الموافق لـ 1 ماي 2022 أنّ صيحة كارل ماركس الداعية العمال إلى أن يتحدوا إذ ليس لديهم ما يخسرون غير السلاسل التي تكبّلهم صيحة في جبّ هاوية يظل صداها يتردد في الوضع التونسي من دون توقف ولا فائدة أيضا؛ تشهد تونس منذ فترة ليست بالقصيرة انهيارا لبيئة العمل ومؤسساته بالبلاد، وهو ما أفضى بالضرورة إلى أوضاع اقتصادية عسيرة في اقتصاد دولة محدود النمو أصلا. وأثر ذلك على وضع العمّال أيما تأثير، مقرونا بصعوبة وفداحة بعض السياسات التقشفية في البلاد التونسية التي تصنف على أنّها من الدول متوسطة الدخل، والتي تلجأ إلى صندوق النقد الدولي للتمويل والإسناد.

ويفرض ثلاثي مدمّر مكوّن من وباء كوفيد ـ 19 وغلاء الأسعار والبطالة المزمنة حصارا على العامل التونسي للعام الثالث على التوالي بعد تفشي فيروس كورونا سنة 2019، وبسبب تداعيات الجائحة الصحية وسياسات الدولة التي تركت الشغالين وحيدين في مواجهة مصير معتم وأزمات معيشية خانقة. . وتزداد الضغوط المتراكمة التي تهدّد العمال في تونس، والتي تنضاف إلى خوفهم الدائم من الفصل التعسفي أو الاستغناء عنهم في أماكن عملهم بدعاوى إشتداد الأزمة المالية التي تواجهها المؤسسات والشركات التي تشغّلهم. وكأن الوضع ليس كارثيا بما يكفي كما هو عليه الحال الآن، يزداد على متاعب العمال التونسيين عبء حصولهم على رواتب دون الحدّ الأدنى المطلوب لمتطلبات المعيشة وتأخر صرف هذه الرواتب في كثير من الأحيان. ويضيف ذلك إلى معاناتهم في وقت تشهد فيه معظم العائلات صعوبات اقتصادية ومعيشية حادة بشكل غير مسبوق صارت تهددهم حتى بسوء التغذية نتيجة لانهيار قدرتهم الشرائية.

قدّرت منظمة العمل الدولية في تقرير صادر عنها سنة 2018 أن 53% من سكان تونس هم من العاملين في القطاع غير الرسمي. وحسب ورقة بحثية صادرة عن منتدى الإصلاح العربي، فإن هؤلاء العمال وعائلاتهم يواجهون حالة من انعدام الأمن بسبب عدم توفر الرعاية الصحية واستحقاقات الضمان الاجتماعي، بما في ذلك رواتب التقاعد وغير ذلك من المستحقات، كالمساعدات الأسرية، ودعم الرعاية وحضانة الأطفال، أو مكافآت نهاية الخدمة وتعويضات ما بعد الوفاة. ويمكن فهم ذلك من خلال حقيقة أن النموذج الاقتصادي التونسي كان قد تطوّر باعتباره اقتصادا تصديريّا كثيف العمالة، ينصب تركيزه على السياحة والتعاقد مع مصادر خارجية منخفضة التكلفة. وبذلك، أدّت الحوافز المالية والتشجيعات الضريبية التي تطرحها الدولة لجذب المستثمرين وتشجيعهم على البقاء إلى التغاضي عن انخفاض الأجور وعدم الاهتمام بتنمية المناطق الريفية والزراعية. من هذا المنطلق، تعتبر العمالة التونسية عمالة هشة في نظام اقتصادي أكثر هشاشة ومحدودية إحدى أبرز سماته ارتفاع نسب البطالة، التي أظهرت بيانات للمعهد التونسي للإحصاء أنها قد جاوزت 18 بالمئة خلال الربع الثالث من سنة2021؛ إنّ الأولوية غالبا ما كانت تولى إلى توفير فرص عمل بغض النظر عن مدى جودة ظروف العمل ومدى تعويض العامل عن جهده الذي يبيعه لمشغّله. وبما أن نصف الاقتصاد ينتمي للقطاع غير الرسمي، فإنه يصعب رصد امتثال الشركات والمؤسسات الاقتصادية الخاصة للتشريعات التونسية المتعلقة بتنظيم العمل.

ويُقرّ المتحدث الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، سامي الطاهري، أنّ وضع العمال التونسيين ما انفك يزداد سوءً هذا العام مقارنة بالعام الماضي، مشيرا إلى أن الشغالين يدفعون التكلفة الباهظة للوضع السياسي المتقلب في البلاد وتوتّر الأجواء بين الفاعلين السياسيين وبين السلطة على ساحتها السياسية. إن العمال هم ضحايا الوضع الصحي اللاحق لتفشي الجائحة، والسياسي المتعلق بكمية الفشل الرسمي في إدارة الجائحة الصحية والحد من تداعيتها الاقتصادية على سوق العمل، خاصة في ظل الغلق اليومي للمؤسسات وإعلان إفلاسها الذي يترافق مع انعدام مورد الرزق للشغّالين بها. وبذلك يشهد العمال التونسيون أحلك فترات التاريخ العمالي للبلاد باعتبار أنهم موجودون ضمن خانة الضحايا العاجزين في كل الأحوال، فهم إما أنهم ضحايا إجراءات تسريح العمال والموظفين، وبالتالي البطالة والعطالة، أو أنهم ضحايا الغلاء والتضخم الذي يصيّر مداخيلهم هباء منثورا

إن العمال وأصحاب الأجور القارة في تونس هم من المعدمين الفقراء في كل الحالات، إذ أشار صندوق النقد الدولي في تقرير أن نصيب الفرد في الناتج الإجمالي المحلي بتونس يُعدُّ الأقل بمنطقة المغرب العربي خلال الفترة 2013 ـ 2017؛ أوضح التقرير المذكور أن نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي في تونس بلغ خلال الفترة 2013 ـ 2017 نسبة تصل لـ0.4 %، وأن هذه الأرقام لا تزال غير محينة بشكل دقيق وحاسم في ما يتعلق بفترة ما بعد تفشي جائحة كورونا. وبذلك ستكون هذه المؤشرات إثر تحيينها أسوأ بكثير من هذه المعطيات السابقة، وهو ما يمكن تلمّسه من خلال واقع المعيشة واضمحلال القدرة الشرائية للعمال والتونسيين في العموم.

وينضاف إلى الواقع التشغيلي المتردي للعمال في تونس مخاوف من الاتفاقات المحتمل، بل والضروري، إبرامها مع المؤسسات والجهات الدولية المانحة، ومن أهمها صندوق النقد الدولي؛ تسخر الحكومة التونسية كل الجهود للحصول على قرض بنحو 4 مليارات دولار مقابل حزمة تدابير ستلتزم بها الدولة التونسية في حال نجحت في تحقيق هذا الاتفاق مع إدارة الصندوق. ومن بين شروط منح هذه الحزمة التمويلية تقليص كتلة الأجور وتجميد المرتبات في ما يخص العمل ضمن الإدارات الحكومية ومؤسسات القطاع العام التونسي، الأمر الذي سيفاقم الأوضاع الاقتصادية في بلد يشهد انهياراً اقتصادياً وتقلصا للاستهلاك أصلا، وارتفاعاً لمعدلات الفقر

يواجه العمال التونسيون صعوبات غير مسبوقة، فالجميع يتلظّى نار ارتفاع معدلات التضخم وما ينجر عنها من ارتفاع تكاليف المواد الأساسية، وانخفاض القوة الشرائية للعملة الوطنية. وبالإضافة إلى ذلك، فسيؤدي وقف التوظيف الحكومي بالعامل التونسي إلى طرق باب سوق العمل الموازية في البلاد، والتي باتت ملاذا للباحثين عن لقمة العيش في ظل الاخفاق الحكومي في تطويق وإدماج القطاعات الموازية في الاقتصاد النظامي وإخضاعها لقوانين الجباية والصرف التونسية؛ ينتشر العمل غير الرسمي بصورة خاصة بين الشباب التونسي، فقد تبين أن هناك شخصا واحدا من بين كل ثلاثة من العمال الشباب لديه عقد عمل رسمي مع إمكانية الحصول على الحماية الاجتماعية. علاوة على أن 15.3% من الشباب في المناطق الريفية (الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 إلى 29 عاماً)، و38.8% من الشباب في المناطق الحضرية فقط يمتلكون عملا دائما وحماية اجتماعية كاملة وأمنا وظيفيا شاملا، بحسب ما يورده تقرير صادر عن البنك الدولي بتاريخ سنة 2015 بعنوان "إزالة الحواجز أما إشراك الشباب". كما تكشف نتائج بحث للمرصد الوطني للتشغيل بتونس أن نسبة التشغيل غير المنتظم في تونس بلغت 36%. وتُقدّر نسبة التشغيل غير المنتظم 52% لدى فئة الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 30 سنة. في المقابل، تورد بيانات رسمية لمعهد الإحصاء الحكومي أن الأسواق الموازية تحوز على 44 % من فرص العمل في البلاد، بما يوازي 1.5 مليون تونسي من مجموع 3.566 مليون عامل في تونس.

إن الطبقة العاملة والحركة العمالية هي واقع موضوعي صاغه كاستتباع وجود طبقة رأس المال. ولذلك فإنه لا يستقيم تطبيب خسارات رأس المال على حساب العمال وجهدهم الإنتاجي فائق الأهمية لرأس المال ذاك أولا وبالأساس. إن دوران نظرية الصراع حول مفاهيم عدم المساواة الاجتماعية في تقسيم الموارد وتركيزها في السياق التونسي على الصراعات القائمة بين الطبقات لهو أمر مغلوط باعتبار ارتحال الطبقة العاملة التونسية إلى فضاءات اغتراب جديدة عابرة للأقطار و بشروط عمل مغايرة، ولكنها ليست بالضرورة خيرا من سابقتها.