برهان هلّاك

يعلو صخب "الديمقراطيين" من أصحاب سلطة تمت إزاحتهم عنها في تونس منذ شهر جويلية الماضي، و تم تتويج مسار الاحتجاج الصاخب بمسيرة أفضت إلى وقفة احتجاجية بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس يوم الأحد 26 سبتمبر 2021. و قد تم الكشف عن فبركة صور مضللة لأعداد المحتجين تم نشرها بحسابات رسمية لقيادات "الديمقراطيين" السابقين، على غرار الصورة التي نشرت بالصفحة الرسمية لرئيس حركة النهضة و البرلمان المجمّد، راشد الغنوشي (و التي بينت تحريات مرصد " تونس تتحرى " التابع لنقابة الصحفيين التونسيين أنها معدلة بغرض التضليل). و يعود سبب ضعف الحضور الشعبي إلى عاملين أساسيين هما مدى الخراب الذي تسبب فيه الديمقراطيون الحاكمون بأمر الله سابقا، ومدى نجاح الرئيس التونسي قيس سعيد في تفتيت و تذرية قدرة هؤلاء على التعبئة الجماهيرية.

و أما عن أوجه هذا الخراب الذي إمتد في الزمن عشر سنين، فقد سرى الدمار المعنوي و الخراب المؤسساتي و الإقتصادي سريان النار في هشيم تأسيس ديمقراطي جاد و مثمر. لقد راهن الحاكمون الديمقراطيون سابقا، و المخلوعون حاليا، على العنف الدموي الذي ساد بهدف خلق حالة من التَّبلُّد والاستسلام لبشاعة جريمة الهزيمة المفعمة باليأس والإحباط. و هو ما أفضى إلى القبول بحتميَّة الإنهيار على جميع الأصعدة. و إننا نفهم حالة عدم التجاوب الشعبي مع نداء الخروج إلى شوارع و ميادين الإحتجاج و رفض الإنقلاب، إذ يناشد هؤلاء شعبا لم يعاملوه يوما على أنه شريك في الوطن، بل اختزلوه في أرقام تائهة في معادلات إنتخابية ممجوجة و "أعراس" ديمقراطية صارت بلا فرح. كما نفهم رفض أعداد كبيرة من التونسيين للنزول احتجاجا على إنقلاب هم كانوا مساندين له منذ ليلته الأولى، ليلة 25 جويلية، إذ بهت هذا الشعب من مطالبة القيادي بحركة النهضة، عبد الكريم الهاروني، بالتسريع في صرف مستحقات النضال للإسلاميين في شهر جويلية الذي مات فيه أكثر من 4000 آلاف تونسي جراء فيروس كورونا و إهمال الدولة لحق التونسيين في الرعاية الصحية؛ لقد فهم جزء كبير من التونسيين أن الإخوان الديمقراطيين الحاكمين سابقا هم " متسوّلو دولة " إذ يكرّسون بخطاباتهم المطوّلة عن المظلوميّة منطق الأجر في مقابل " خدمات نضالية " قدموها بالنيابة عن الشّعب. كما فهم جزء كبير من التونسيين أنهم لازالوا ينظرون للسيّاسة بإعتبارها رعيا و مازالوا يخاطبون نموذج الملك ـ الرّاعي كما يفضح ذلك " ميشال فوكو ".

و يشير الصحفي التونسي المختص في شؤون الجماعات الإسلامية، أحمد النظيف، في إجابته عن سؤال فقدان الإخوان في تونس لقدرتهم على التعبئة الشعبية بأن حزب حركة النهضة الحاكم منذ عشر سنين قد بلغ مرحلة من الترهل التنظيمي و الضعف الشعبي عظيمة، و بالتالي فإن مراهنة الحركة اليوم على تحشيد الطبقات الشعبية ذات الأغلبية لهي قاصرة من جهة كم الدمار الذي لحق هذه الطبقات نتيجة سياسات الحركة و طريقة إدارتها للدولة في العقد الماضي؛ يشير أحمد النظيف إلى أن أغلب المؤشرات الإقتصادية والإجتماعية في تونس تقرّ فشلا ذريعا منيت به حركة النهضة في إدارة الدولة على مدى عشر سنوات من وجودها في السلطة منفردة أو بالشراكة مع حلفائها. غير أن الإنحدار الذي عرفته البلاد خلال العام الأخير من شلل في الخدمات العامة للدولة وتفشي العنف والفساد بدا غير مسبوق، فيما كانت الحركة تصر بقوة على دعم حكومة هشام المشيشي التي فشلت في محاصرة انتشار الوباء، حتى أن تونس بلغت في يونيو الماضي المركز الأول عالميا في عدد الوفيات من فيروس كوفيد19. هذا الفشل كان دافعاً للمئات من التونسيين للكف عن دعم حركة النهضة بعد أن خابت آمالهم التي علقوها عليها منذ العام 2011.
 
و يدلّل كل ما تقدم على إنهيار مشروعية الإحتجاج على مسار إنقاذ، أو أي يكن تواضعنا حول ما بادر به الرئيس التونسي قيس سعيد، حيث أن ما اقترفته أيديهم من أخطاء و ما أفضت إليه أفعالهم و سياساتهم و مناوراتهم هو ما ساعد رئيس الجمهورية على تقويض أي مشروعية للاحتجاج و تفكيك التماسك الداخلي للتنظيم.

لقد سحب الرئيس قيس سعيد البساط من تحت قيادة حركة النهضة الحاكمة منذ سنة 2011على عكس ما تزعمه( إذ أن التدابير الاستثنائية التي أعلنها ليلة 25 جويلية 2021 قد أدت إلى تفكك تنظيمي و عدم انضباط حزبي في صفوف الحركة كانت قد امتازت به منذ نشأتها (كما هو الحال بالنسبة للتنظيمات العقدية على شاكلتها(؛ يبرز ذلك من خلال التضارب في التصريحات بين من اعتبر أن الإجراءات الرئاسية هي انقلاب على الديمقراطية، و من أشار إلى أن الحركة مسؤولة عن تردّي الحياة السياسية و الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية بتونس. و هو ما أفضى إلى انتفاضة شعبية يوم 25 جويلية غطّت أنحاء عديدة من البلاد. و تطور هذا التضارب في التصريحات، و هو علامة شقاق واضح، ليتبلور " تيّار " رافض لسياسة الحركة و أداء قيادتها حسبما تشير إليه الكاتبة الصحفية التونسية حنان زبيس. فقد نشر ما يفوق 130 عنصرا من حركة النهضة، بينهم خمسة نواب بالبرلمان، بياناً أسموه " بيان تصحيح المسار"، وطالبوا فيه الغنوشي " بتحمّل المسؤولية كاملة عن التقصير في تحقيق مطالب الشّعب التونسي، وتفهم حالة الاحتقان والغليان. كما أشاروا إلى أن " خيارات الحزب السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و طريقة إدارته التحالفات و الأزمات السياسيّة لم تكن ناجعة في تلبية حاجيات المواطن، الذي طحنته ماكينة غلاء الأسعار وتدهور القدرة الشرائيّة، إضافة إلى البطالة والجائحة الصحية. و إن توجيه أصابع الاتهام لقيادة الحركة، و أميرها رأسا، سابقة في حد ذاتها في حركات الإسلام السياسي التي تتميز عادة بالانضباط والطاعة التامة و إعلان الولاء و البراء للأمير. كما توالت الموجات الاحتجاجية الرافضة لمواصلة قيادة الحركة مهامها، ففي 4 أوت الماضي، و خلال اجتماع مجلس شورى الحركة، انسحبت بعض القيادات من الاجتماع، على غرار النائبات جميلة الكسيكسي و منية ابراهيم و يمينة الزغلامي، اللاتي ندّدن بسياسة الهروب إلى الأمام وعدم الانتباه إلى خطورة اللحظة التي تمر بها الحركة والبلاد. و كان ذلك على إثر خيبة أملهم بعد توقعهم بأن يتنحى رئيس الحركة عن القيادة ويُفوّض صلاحياته لقيادة جديدة تحظى بقبول الرأي العام على حد عبارة القيادي بالحركة، محمد بن سالم.
 
و قد أفضى هذا الاحتجاج و الانقسام الداخلي إلى إعلان 113 قياديا بالحركة، منهم سمير ديلو و عبد اللطيف المكي، استقالتهم و عبروا عن خيبة أملهم من انحراف الحركة عن مبادئها و سوء إدارتها للملف السياسي التونسي خاصة في هذا الظر ف العصيب حسب وصفهم.
 
و من ثمة فإن هذا الانقسام لهو سبب من أسباب ضعف القدرة على تعبئة الجماهير، إذ أنّى لحركة عقدية القدرة على حشد الشارع بينما ينتفض منتسبو الصفوف القيادية فيها على أوامر القيادات؟! و كيف يُتوقّع أن تنزل الجماهير إلى الشوارع في تلبية لدعوات حركة النهضة التي لم تعد تشبههم و لم تعد " حاملة لهمومهم و آمالهم " كما كانت تعلن ذلك طوال أربعين سنة منذ تأسيسها؟! يشير الصحفي أحمد النظيف إلى أن الانتماء للحركة الإسلاموية أضحى قائما على أسس مصلحية و نفعية و ليس على قواعد عقائدية و أيديولوجية كما كان الأمر قبل ثورة العام 2011، و لذلك فإنه من الصعب على قيادة الحركة أن تقنع شرائح، كانت قد تخلت عنها في الماضي القريب، بالاحتجاج على فقدانها للسلطة لصالح قيس سعيد الذي صار يمثلهم، على الأقل من ناحية أنه " ثأر لهم و اقتصّ " ممن " خانوهم و غدروا بهم ".

يثبت الحضور الضعيف نسبيا للجماهير (على الأقل مقارنة بالسابق) حقيقة تصدع مشروعية الاحتجاج و ضعف حجية المظلومية التي طالما احتكرتها حركة النهضة الإسلامية و وظفتها في خدمة أجهزتها الدعائية. لقد خبر التونسي اليوم مدى انعدام كفاءة الحركة في إدارة شؤون الحكم و ضمان الرفاه في ظل حكم إسلامي رشيد، و هو ما يجعله غير ذي إستعداد للخروج دفاعا عن ديمقراطية شكلانية لم تطعمه من خلالها الحركة إلا الأوهام. و كان ذلك ما اقتنصه قيس سعيد و وظفه في إضفاء المشروعية على ما بادر به ليلة 25 جويلية 2021، فقد تيقّن بأن الثقل الشعبي قد عرف انزياحا عن مراكزه التقليدية و صار يصب في صالحه.