برهان هلّاك

بدر عن الرئيس التونسي قيس سعيّد قرار رئاسي يقضي بحلّ البرلمان “المجمّد” منذ 25 جويلية 2021، وذلك عندما ترأّس اجتماعاً لمجلس الأمن القومي التونسي بتاريخ 30 مارس 2022. ويأتي هذا القرار كرد فعل رسمي من الرئيس التونسي على قيام مجموعة من النواب بالبرلمان “المجمّد”، وعددهم 120 نائباً، بعقد جلسة افتراضية دعا إليها الرئيس السابق للبرلمان المنحلّ وزعيم حركة النهضة، “راشد الغنوشي”؛ لقد قاموا خلال هذه "الجلسة البرلمانية العامّة" بالتصويت على إنهاء العمل بالتدابير الاستثنائية التي تم إقرارها منذ ثمانية أشهر. ارتأى قيس سعيد في مثل هذا القرار، وفي الحد الأدنى من التأويل، حسما باتا للصراع مع ما يعتبره منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 التي كادت أن تعصف بتماسك الدولة التونسية، والتي يعتبرها علّة قرار اتخاذ التدابير الاستثنائية في المقام الأوّل.

من هذ المنطلق، يمكن النظر إلى قرار حل البرلمان المجمد من زاوية إرادة رئاسية في استعراض قوة كانت في الفترة الأخيرة محل شكوك خطيرة لا تحتملها مواقع السيادة العليا بتاتا، وخاصة في مثل هذه الظروف العاصفة والمتسمة باشتداد الأزمات على واجهات متعددة؛ لقد أبرز هذا القرار صرامة رئيس الدولة التونسية، والتي يستند فيها إلى الدستور ذاته وبالتحديد الفصل 72 منه والذي يقر أن رئيس الدولة هو المسؤول عن وحدة الدولة واستمراريتها وصونها ودرء كل الأخطار المحدقة بها. وفي هذا الاستناد إلى الدستور وهذا الفصل بالتحديد رسالة موجهة للخصوم السياسيين اللدودين، وخاصة حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، الذي أجرى مؤخرا لقاءات مع سفيرة المملكة المتحدة بتونس، وهي لقاءات تشي بأنه لازال في موقع القوة والمتحدث باسم الدولة التونسية. في الحقيقة، لقد كان ذلك ما عابه عليه، بل واستشاط منه غضبا، في السابق الرئيس قيس سعيّد؛ لقد كان دائم الإشارة والتدليل على أن ذلك الاختصاص حكر له بوصفه رئيسا للجمهورية ومسؤولا عن السياسة الخارجية للدولة التونسية.

وإلى ذلك فإن مثل هذا القرار القاضي بحل البرلمان الذي كان قد جمّد أعماله منذ 8 أشهر، بالإضافة إلى جملة القرارات والتدابير الاستثنائية التي يتخذها الرئيس التونسي منذ مدة، هي بيان لقدرات وقوة رئيس الدولة على إعادة ترتيب المشهد السياسي وتوجيهه إلى مسارات إصلاحات سياسية ودستورية كان قد أعلن عنها في غضون آجال زمنية محددة؛ ابتغى منظمو "الجلسة العامة" الأخيرة للبرلمان فرض عودة هذه المؤسسة للعمل خارج إطار الأمر الرئاسي عدد 117 الذي سبق وأعلنه رئيس الدولة، والذي قضى بتمديد تطبيق الإجراءات الاستثنائية بما فيها استمرار تعليق صلاحيات أعضاء البرلمان المجمّد. غير أن انعقاد هذه الجلسة مثل عاملا محفّزا ودافعا للرئيس التونسي لاستكمال تصوّره لإعادة هيكلة جذرية للنظام السياسي في تونس، خصوصاً في ظل غياب المحكمة الدستورية، وهو الاعتبار الذي يجعله يملك منفرداً صلاحية تأويل الفصول الدستورية.

إن استعراض القوة هذا لا يستهدف جماهيرا محلية تونسية وحسب، بل هو موجه كذلك للجهات الدولية التي ما فتئت تعلن عن مواقفها المؤيدة، أو المعارضة على حد السواء، للإجراءات التي تمّ إقرارها  في جويلية الماضي؛ يروم الرئيس قيس سعيد التعبير من خلال قراره بحل البرلمان المجمّد نهائياً عن رفضه للتدخلات في الشؤون الداخلية للبلاد وعدم انصياعه للضغوطات الخارجية التي تمارس عليه منذ مدة. ويُرجّح أنه قد زاد من تصميمه على حل البرلمان المجمد زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي “أوزرا زيا” لتونس، إذ جمعتها لقاءات متعددة مع بعض النواب السابقين في البرلمان وممثلين عن بعض منظمات المجتمع المدني في محاولة لحمل الرئيس التونسي على إنهاء لعمل بالتدابير الاستثنائية وإرجاع البرلمان لعمله "الطبيعي". ويكون بذلك قيس سعيد عن أعلنيها صراحة أنه رافض لمثيل هذه الضغوطات، في تدلال صريح على أن قراراته لا تقوم إلا بناءً على تصوراته الخاصة الرامية إلى صون وحدة الدولة التونسية واستمراريتها، وإلى حماية مؤسساتها الدستورية من أن يتم تفتيتها وهدمها.

كان قيس سعيد قد ردّ على جلسة البرلمان المجمد بحل هذه المؤسسة التشريعية، كما أمر بالتحقيق مع أكثر من نصف الأعضاء الذين شاركوا فيها. وقال في تسجيل مصور نشر على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية التونسية على موقع فيسبوك أن “تونس تعيش اليوم محاولة انقلابية فاشلة }...{ لقد أُعلن في هذه اللحظة التاريخية عن حلّ البرلمان حفاظا على الدولة ومؤسساتها”. وبذلك يلمّح قرار حل البرلمان إلى أنّ أيّ نوايا مستقبلية محتملة للاشتغال بالبرلمان ستصبح مخالفة للقانون إذا تواصلت، وأن هذا المجلس النيابي لا يمكنه أن يعقد اجتماعات باعتبار انتفاء أي وجود له على الصعيدين القانوني والدستوري. وقد رأى الكثير في ذلك تجنيبا لتونس من صراع وتنازع شرعيات قد تكون مآلاته مدمرة؛ إن هذا القرار  قد نجّى البلاد من انزلاق في المنحدرات القاتلة التي يجسّدها وجود سلطتين، واحدة رسمية تنفيذية متمثلة في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وأخرى موازية من خلال البرلمان المعلّقة أشغاله والذي عقد جلسة افتراضية وصادق على قرار يضع حدّاً للتدابير الاستثنائية في البلاد.

يشير الباحث التونسي في القانون الدستوري، رابح الخرايفي، خلال تصريح لموقع "إندبندنت عربية" أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد قد فعّل بقراره حلّ البرلمان "النظرية الدستورية التي تكرّس مبدأ الدفاع الشرعي للدولة عن نفسها وعن مؤسساتها وحماية أمنها واستقرارها". وإضافة إلى ذلك فتبزغ صورة أخرى لرئيس الجمهورية التونسية تنصّبه مالكا حصريا لفعالية القراءة والتفسير الرّسمي للدستور؛ أي تأويل لفصول الدستور التونسي هي عائدة بالضرورة للرئيس قيس سعيّد وحده، وفي ذلك ما يشي بسعي حثيث لتفنيد كل القيل والقال حول تشرذم السّلط المكونة للدولة التونسية وضعف وحدتها كذلك.

إنّ التغييرات التي كان الرئيس التونسي قد أشار إليها في حملته الانتخابية لهي دافع آخر نحو الحسم في مسألة المؤسسة البرلمانية التي يمكن أن تمثل تهديدا جسيما لهذه المساعي الإصلاحية من حيث إمكان عرقلتها أو حتى رفضها بصيغ قانونية بحتة باعتبار الصلاحيات التي يتمتّع بها البرلمان؛ عند العودة على الإصلاحات المزمع تنفيذها، فإنه من الجدير التذكير بأنها ستشمل تنقيح الدستور الحالي وتغيير طبيعة النظام السياسي، من خلال العودة إلى النظام الرئاسي، وكذلك تبني نظام "البناء القاعدي" وتعديل القانون الانتخابي من نظام التصويت على القوائم إلى "الاقتراع بالأغلبية على الأفراد". وذلك بالإضافة إلى مسألة سحب الثقة الشعبية من المسئولين على جميع المستويات، وأيضاً تعديل قانون الجمعيات التونسي بمنع التمويل الأجنبي.