برهان هلّاك

 تمرّ مؤسسة رئاسة الجمهورية التونسية من خطابات الإشارة إلى الهنات التي أصابت مؤسسات الدولة، و بالأخص الحكومية و البرلمانية، إلى الفعل الحازم الممسك بقبضة محكمة على فعاليات المبادرة التنفيذية الرئاسية. و يهمّ الرئيس، قيس سعيد، إلى المسك بزمام أمور ارتأى أنها بصدد أن تفلت من بين أصابع أجهزة الدولة المرتعشة نحو عدم سيلتهم الجميع؛ فبعد أن انطلقت دعوات على منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك للخروج للتظاهر السلمي يوم 25 جويلية 2021 من قبل بعض الناشطين و المدوّنين (على غرار مجموعة " لا للتعويضات للنهضاويين " ذات الـ 650  ألف عضو وغيرها من المجموعات والصفحات الداعية للاحتجاج الشعبي بكامل محافظات الجمهورية)، ظهر الرئيس قيس سعيد معلنا حزمة من القرارات تتلخص في تجميد عمل البرلمان و رفع الحصانة عن جميع النواب، وإعفاء رئيس الحكومة، هشام المشيشي، من منصبه على أن يتولّى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية و يعيّن رئيس حكومة جديد. و قد تمّ ذلك في إطار تفعيل رئيس الجمهورية للفصل 80 من الدستور التونسي، المعتمد منذ سنة 2014، و الذي يخوّل له إقرار تدابير استثنائية في حالة استحالة السير العادي لدواليب و أجهزة الدولة عند مواجهة خطر داهم. و ذلك ما ينفي ادعاء الحزب الحاكم، و كافة مكونات الحزام السياسي للحكومة باعتبار ما جرى في تلك الليلة بمثابة الإنقلاب على الشرعية الدستورية، فالإنقلاب تجاوز لكل النصوص والقوانين و خرق لها بهدف بلوغ السلطة و التفرد بها، في حين استندت قرارات قيس سعيد إلى فصل دستوري يبقى تطبيقه منقوصا من جهة عدم وجود محكمة دستورية يعود إليها الرئيس في مثل هذه الحالات.

إنّ دافع الرئيس في تفعيل هذا الفصل في هذا الوقت بالذات مفهوم، على الأقل من قبل فئات شعبية و نخبوية واسعة، إذ تسير البلاد نحو قاع ليس له قرار. وقوام هذا القاع دمار مؤسساتي شامل و مفزع و حالة من العطالة المقرونة بتحالفات الفساد و النهب و علاقات الزبونية بين مختلف الحكام و طغمات من أصحاب المصالح الفاسدة الذين لا يستطيعون العيش في نور الشفافية و حكم القانون وتساوي الفرص بين جميع التونسيين.

و إنه لمن المفارق أن يعاب على الرئيس سعيد احتكامه لمقررات فصل دستوري كان قد وضعه الحاكمون بأمر الله، وأتباعهم من ورائهم، في حين أنهم واضعو هذا الدستور الذي استغرقوا في تحبير فصوله في تؤدة امتدت على ثلاث سنوات من 2011 إلى 2014؛ و قد امتدّت  فترة صياغة الدستور 3 سنوات، في حين التزمت حركة النهضة آنذاك بالإنتهاء من كتابة هذه الوثيقة التعاقدية الوضعية خلال سنة واحدة، و هو ما مثل سقوطا أخلاقيا و إخفاقا إتيقيا منذ اللحظات الأولى للتأسيس الديمقراطي. و لكن القيادي بحركة النهضة الإسلامية، نور الدين البحيري، برّر هذا السقوط بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها! و بذلك يكون الدستور في سياقات الحاضر، بما هو مجموعة مهولة من التناقضات المعطلة لكل شيء، بمثابة ما اكتسبت أنفسهم كما تقرّ تتمّة تلك الآية القرآنية.

و إنه لمن العجيب توظيف غياب المحكمة الدستورية، التي لها نظريا صلاحية الفصل في دستورية الإجراءات الرئاسية، في حين أن الحزب الإسلامي الحاكم قد كان المعطّل لإرساء هذه المحكمة منذ سنوات نتيجة للميل لمناورات سياسية في علاقة بمقتضيات تحالفاته منذ انتخابات 2014 و التوافق مع حزب نداء تونس وقتئذ. إن الحزب الإسلامي الحاكم، المتباكي اليوم على لادستورية هذه الاجراءات و القلق من الإنقلاب، هو المسؤول الوحيد عن أي انحراف مفترض للرئيس في علاقة باحتكار ممكن للسلطة و تقويض للبناء الديمقراطي، الشكلاني و الهش إحقاقا للحق؛ إن حزب حركة النهضة الأغلبي في البرلمان، منذ انتخابات المجلس التأسيسي في سنة 2011، قد تغاضى عن وضع الهيئات الدستورية، و أهمّها المحكمة الدستورية، لأنه لم تكن من أهدافه وضع هيئات تخدم البلاد بحياد، ولم يكن في عقله المهووس بالتمكين استكمال البناء الديمقراطي. لقد كان همه الأوحد إرساء هيئات يكون فيها للجماعة الغلبة. و قد تمّ ذلك في شكل التوافقات التي طالما كانت على حساب الشفافية و البتّ في الملفات و إقرار مبدأ المحاسبة على كل الأفعال الخارقة للقوانين مهما كان وضع و مكانة مقترفها في لعبة التحالفات والصراعات الدائرة منذ أمد ليس بالقصير.

كما أننا، و على شاكلة إميل زولا، نتّهم فرع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بتونس و نحمله مسؤولية أي تفرد بالسلطة أو انحرافات متعلقة بعودة محتملة لمربع الاستبداد؛ أ لم يحرص إخوان تونس في حركة النهضة، طوال العقد الماضي، على تدمير المعاني المؤسساتية للديمقراطية المبتغاة في تونسنا؟ أ لم يحرمونا من تأسيس رصين لدولة القانون، دولة لا غلبة فيها و لا مغالبة غير نزيهة يتم فيها الصراع خارج النصوص القانونية وخارج الدّولة؟ أ لم يحرمونا من فرصة تاريخية في إرساء دولة الشفافيّة و احترام حرمات الناس وأعراضهم وحريتهم وحقوقهم المدنيّة والسياسيّة الكاملة كما يقول الصحفي التونسي محمد بالطيب؟ 
 
أ لم يسلبونا الأمل في دولة المحاسبة العادلة للجميع إذ رأينا خيرة مواطنينا و هم يغتالون و لعلعة الرصاص تسد آذان الحاكمين الملطخة أياديهم بدماء العظيمين شكري بلعيد و الحاج البراهمي؟ أ لم يُصيِّر حزب حركة النهضة تونس مسرحا لكل الممارسات الدنيئة و القذرة، و هل نخطئ حينما نقول بأنهم طوعونا خدمة لأجندات مذلة لنا يفرضها الباب العالي و سلطان العثمانيين الجدد؟ أ لم يزجّو بتونس في أتون صراعات إقليمية لتتقاذفنا أمواج التبعية لهذا الطرف و العداء لذاك؟ أ لم يجرم هؤلاء حين احتكموا في سياستنا إلى الثارات و النعرات والعنهجيات العرقية و الجغرافية في بلد يعاني الكثيرون فيه من الحيف و القهر والجوع؟ أ لم يتآمروا على المرابطين على تخوم الحدود في جغرافيات قصية وسفّروا أبناءهم لحروب وكالة تخاض على أراض سورية و ليبية و عراقية يروّعون الآمنين فيها و يسفكون الدم الذي حرّم الله؟ أ لم يراهنوا على تغذية حسابات المستكرشين و الفاسدين في محاولتهم لخلق توازنات بين محدثي النعمة من إخوانهم و قدماء الفسدة ظنا من أن ذلك سيحميهم من غضب الجياع إذا هبّوا للحمهم ساعين؟ أ لم يفتحوا أبواب المؤسسات التي ترمز للسيادة الوطنية أما دعاة الظلامية و الإرهاب من أمثال وجدي غنيم المهووس بفروج العذراوات إذ يهذي بالتأسيس لختانها في يوم مشهود في قبة قصر الرياضة بضاحية المنزه بتونس؟ أ لم ينادوا بتطبيق حد الحرابة في جلسة عامة للمجلس التأسيسي سنة 2011، و هل أن آذاننا خدعتنا إذ سمعنا القياديين في حركة النهضة يدعون لسحل التونسيين المنتفضين على حكمهم القائم على الإستبداد المشرعن بأوامر إلهية؟ أ لم يصوبوا بنادق صيد العصافير، التي غادرت البلاد ما أن حلّوا بها، نحو الشباب في مدينة سليانة و فقأوا أعينهم و حاولوا تثبيت جوهرتين محلّهما بوعود زائفة و تطمينات على توافر عصابات العين التي ستغطي أعينهم حفاظا على الذوق العام؟ أ لم يمهّدوا السبيل لزعماء الإرهاب و الدم لمغادرة البلاد نحو وجهات الجهاد المدنّس؟ أ لم يغرقوا ميزاننا التجاري بسلع تركية عديمة الجودة بدءً ببذور عباد الشمس و حتى خطابات الشوفينية و التسلط لرئيس تركي مهووس بإعادة سلطنة غابرة غير مأسوف عليها؟ 
 
أ لم يرذّلوا كل المعاني السامية للفنون بما هي ما يهوّن علينا حقيقية الخراب الذي أحدثوه بوطننا؟ أ لم يغدقوا العطاء على الفاسدين و الجاهلين و السراق والوصوليين و أسموا ذلك بالمصالحة و طي صفحة ماض لم نتفق حتى الآن حول حقيقة ما جرى فيه و لم نستجل كنهه ولا خفاياه؟ أ لم يغلقوا أجمل الحانات في بلدنا ليبيعونا خمرا ردئيا، و ليؤذوا ليل السكارى البريء كما كان يحلو للعظيم الصغير أولاد أحمد القول؟ أ لم يبيعوا الموهومين الغارقين في تصديق أكاذيبهم صكوك للغفران الأخروي، و باعوا صكوكا للوطنية و الشرف لمن تحالفوا معهم من الفاسدين و الغارقين في مال و عرض و دم التونسيين لعقود؟

إذن، لا يحقّ لمهندسي هذا الخراب التخوف من الإستبداد بالسلطة، أو بالأحرى إستبداد غيرهم بالسلطة، فهم من دفعوا بالأزمة إلى أقصاها و دفعوا بنا إلى طرف الهاوية التي بتنا نحدق فيها بمشاعر مختلطة من الذعر إذ يخشى بعضنا السقوط المدوّي بين تجاويف العدم. و يهلّل بعضنا الآخر لشخص منقذ مفترض، هو على هناته، قادر على إيقاف هذا التقهقر نحو السقوط الذي ما بعده نهوض؛ هذا هو قيس سعيد " الجديد " الحازم و الفاعل كما صنعوه عن غير وعي منهم، و هذا هو الشعب التونسي القديم المتجدد إذ يلتفت بظهره في إعراض عمّا يغرونه أو يتوعّدونه به. و هذا هو مصير الإخوان في تونس، دخول من فوهات جحور الظلامية و التسلط و التدين الرث و العنيف، و خروج من خرم إبرة ... فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ.