تتساقط الأقنعة عن الوجوه الكالحة، المتآمرة على الشعب، وبلدها وتاريخها، وهويتها، وتغيب وجوه، وتظهر وجوه جديدة فيما يسمى (حكومة الوفاق)، إذ لم نعد نعرف، ونميز كيف ينتحل هؤلاء الصفة وينتزعونها، ومن يمنحهم إياها…. مناسبة هذه الكلام، وهذا الحديث هو القرار الشاذ الذي اتخذه رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج، بتعيين عبد الغني الككلي الشهير بـ"غنيوة" ، رئيسا لجهاز الأمن القومي وتعيين ثلاثة آخرين من المليشيات وهم أيوب أبوراس وحسن أبوزريبة وموسى أبو القاسم نوابا له ! لا غرابة في ذلك، فتاريخ أيٍّ من هؤلاء لا يذكرنا بالرجولة، وصفاتها إنما بالانتهازية، وخطاياها التي تُوصِلُ شخصيات إلى حيث لا يستحقون، وتاريخ الأمم والشعوب مملوء بمثل هذه الأنماط، والنماذج التي تسللت إلى مراكز السلطة المختلفة لتلعب أدواراً خبيثة، وقذرة في مراحل تاريخية حساسة على مبدأ "كلمة حق يراد بها باطل".


 
في عهد حكومة السراج، أصبح جهلاء ليبيا حكماؤها، ومراهقوا ليبيا منقذوها، والانتهازيون والعملاء من أبناء ليبيا "مناضلون يقايضون عليه"، فالوطن حين تتحكم به الرعونة وتحكمه الرؤى الضيقة العجاف والعناصر المتطرفة والمصالح الشخصية والفئوية والتطرف الأعمى، ويسيطر على قراره وتوجهاته ضعاف الأنفس وقصار النظر، تُخنَق فيه الكفاءات والمبادرات، ويُخنق فيه أهل الخير وكل من فيهم النفع له من أبنائه، ويُضيق على من يحرصون عليه ويراعون مصالحه ومصالح مواطنيه ويضيق بهم، ويضيق حاكمه بمن لا يوافقه الرأي والرؤية وبمن لا يتفق معه في كل ما يقوم به من أفعال ويدلي به من آراء وأقوال، ويصبح وجود أولئك عبئاً يتم التخلص منه بوسيلة ما لسبب ما... 


أن يصبح المدعو عبد الغني الككلي، رئيسا لجهاز الأمن القومي بليبيا، ينسف فكرة "الأمن القومي ودعم الاستقرار" التي حاولت حكومة الوفاق الترويج والتسويق لها، مع الانتباه لأن عبد الغني بلقاسم خليفة الككلي، تاريخه الميليشياوي، لوحده كفيل بإسقاط المزاعم حول "الأمن والاستقرار" ! ونتساءل: عن أي أمن قومي يتحدث السراج ومعه "غنيوة" ؟ فطرابلس... ضاعت يوم احتلها الإرهاب وناصر بعض بنيه الإرهاب عليها، ويوم أعلن فيه الظلام نفسه نهاراً، وافترس فيه الجهال دياراً... الأمن القومي ضاع لأن الربان والمرشد فاسد مغرور، يدعي المعرفة وهو الجهل، يطالب بثروة وسطوة ووجاهة بأي ثمن ومن أي طريق جاءت، بصرف النظر عن الوسيلة والسبيل والأداة وحكم التاريخ والضمير ورضا الشعب الليبي وإرادته، بينما هو لا في العير ولا في النفير... الأمن القومي ضاع بعدما أصبحت السياسة سفن لصوص ومقامرين، ربابنتها بحارة قفار لا يعرفون عن البحار أكثر مما تعرفه النَّملة عن المحيط الهدار... وفي هذا المناخ يفترس الناسَ في ليبيا الخوفُ والقهر والظلم والجوع والعري... الأمن القومي ضاع يوم يُزري سفهاء من أبنائه بالأصول والمعقول ويعلو صوت الطبالين والزمارين فيه على صوت العلماء والمثقفين والمبدعين، ويعوم لصوص الإبداع ومن يزيفون تاريخ الأحداث والأشخاص والأفكار والإبداع والأشياء ويجيرونها بصخب " ميليشياوي" كريه لمصلحتهم، ويتحاشى كرام الناس من أهل الحق والجدارة أن ينزلقوا إلى ما ينشئه أولئك من مستنقعات الرأي ووسائل التعبير عنه... 


للأسف المأسوف على شبابه، فقرار تمكين المليشيات من الملفات الأمنية في ليبيا، ليس الأول، بل سبقه عدة قرارات لرئيس حكومة الوفاق، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بفصل مليشيا "الردع" عن وزارة الداخلية التي يترأسها فتحي باشاغا، لتصبح جهازاً تابعاً له بذمة مالية مستقلة، وتنصيب المليشياوي عبد الرؤوف كارة، رئيسا له. وعلى نفس الخطى، أصدرت وزارة دفاع حكومة فايز السراج، قرارا في الشهر نفسه، بتعيين الإرهابي الموالي لتنظيم داعش محمد إبراهيم بلعم بإدارة ومتابعة ملف تبادل المعتقلين والجثامين.


بهذه التعيينات، يريد الوكيل السراج نيابة عن الأصيل أردوغان... صياغة (نظام ميليشياوي جديد) يستند إلى تقويض الجيش الوطني، وإلى استئصال الفكر الوطني، بمختلف تعبيراته السياسية، ويكون مبنياً، على (المحاصصة القبلية) المدمّرة للوطن والشعب، وتمهيد الأرض والتربة، لإقامة هذا (النظام الجديد) المفخخ والملغوم، واندراجه في منظومة السيطرة التركية- الأمريكية وفي خدمتها، وإدارته بالريموت كونترول، من الخارج، وعبر السفارات والقنصليات الأجنبية - كما هو عليه الحال، لدى جميع أذناب وأتباع النظام التركي والأمريكي... وبحيث يجري السماح لهذا (النظام الجديد!) بقضاء سنوات من الهدنة بين مكوناته، ويجري دفع هذه المكوّنات، إلى الصدام والاحتراب، كلما اقتضت مصلحة المحور التركي- الأمريكي، ذلك.... 


والأنكّى أنّ رخويات رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج، التي تعيش خارج التاريخ وخارج العصر، تتبجّح، هي وقوارضها الإعلامية، بأنّ تعيين الإرهابي ''الككلي" المقرب من زعيم مليشيا "الجماعة الليبية المقاتلة" عبد الحكيم بلحاج، سيدعم الاستقرار! ويخطئ هؤلاء الطارؤون، إذا ظنّوا للحظة واحدة، أنّ الشعب الليبي - بأغلبيته الساحقة - لا يحمّلهم المسؤولية الكاملة، عن كل قطرة دم سالت في ليبيا، وعن كل بيت تهدّم في ليبيا، وعن كل مواطن تشرّد في ليبيا، رغم معرفة الشعب الأكيدة أنّ هؤلاء الميليشيات، ليسوا أكثر من أدوات وبيادق بيد الاستعمار الجديد، تنفّذ ما يطلب منها وما يُمْلَى عليها، ولكن أكثر ما يؤلم المواطن الليبي، هو تكالب هؤلاء واستماتتهم وتسابقهم لاسترضاء التركي والأمريكي... والاقتراب أكثر فأكثر من إسرائيل وتقديم أوراق اعتماد جديدة، على ظهور الليبيين، وعبر العمل لإحراق ليبيا، أرضاً وشعباً ومقدّرات... فتذكّروا أيّها (الأغراب الأذناب) أنه ما من قوة على وجه الأرض، تستطيع أن تفرض على الليبيين، أن ينسوا ذلك، والأيّام بيننا...
 
 

وللأسف نماذج "غنيوة" موجودة، وفاعلة في النظام السياسي الليبي حتى تاريخه، إذ لا يزال البعض يقيس ولاءه بحجم المزايا التي يحصل عليها، فإذا نقصت أو نزعت فإنه يتحول مباشرة إلى مليشياوي معارض من الطراز الأول، ولهذا فإن هذه الجماعات الإرهابية، تحوي ما يمكن تسميته "صندوق القمامة" من فاسدين سابقين، إلى انتهازيين، إلى قبليين وحاقدين، وزعماء عصابات، ومهربين، ورجال أعمال، ورجال دين… وللإنصاف تضم أيضاً شخصيات كرتونية، أو كاراكوزات تصلح لمسرح العرائس.


بقي أن نقول: التاريخ أيها السادة لن يغفر لهؤلاء الانتهازيين، والساقطين أخلاقياً عهرهم السياسي، وأمراضهم النفسية، وخياراتهم الواهمة وجلوسهم في حضن النظام التركي، والإخوان لينظروا علينا في كيفية بناء ديمقراطية من خلال الحروب القبلية... ومن خلال تحالفات سياسية مشبوهة، ومكشوفة تخدم في النهاية الاحتلال التركي، وأجنداته، وتصوراته عن المنطقة. التاريخ سيكتب عن أردوغان أنه عَمِلَ على تحقيق مصالح بلاده الاستراتيجية، ليجعل تركيا دولة قوية، ولكنه سيكتب عن شخصيات ليبية عديدة وكثيرة أنها خائنة، ومتآمرة وانتهازية، وهزيلة تحالفت مع أعداء الوطن ضد وطنها، وشعبها، وجيشها، وهويتها، وتاريخها، وأنها اخترعت نظرية سياسية جديدة تقول "خذوا الديمقراطية، ولو في تركيا!) وابنوا الديمقراطية عن طريق ثورة عفنة تقوم على كراهية، وبغض الآخر- أي آخر… فهذا زمن ثورات برنارد هنري ليفي، وبلحاج والصلابي وأردوغان… و…. و سيكتب التاريخ أن الثورة الحقيقية ستنبت من شقائق النعمان من أرض ليبيا، من دماء الشهداء، وآلام الجرحى، وقتال الأبطال، ومن فكر ليبي مستنير، مرتبط بالأرض والجذور والتاريخ المشرف… ثورة تحقق مصالح أغلبية الليبيين، وآمالهم، وتطلعاتهم في حياة حرة، كريمة، مشرفة، وليس ثورة تُقسم ليبيا إلى قبائل، ومذاهب، وإلى عقارات ونسب مئوية، فالوطن أكبر منكم جميعاً إنها ليبيا أيها الحمقى


خلاصة الكلام: كثيرون مروا في ليبيا، ثم رحلوا ولم يبق سوى أهلها الذين اختاروا أهليتهم الوطنية، فيما انتهى كل عبث بمقدرات البلاد وأهلها إلى الزوال، ولو أنها مرحلة مرت بكوارث وفواجع. وليبيا ليس جديدا عليها أن تقارع وتحارب، أن تجتث وتستأصل، أن ترفض كل تجربة لا تؤذي الحاضر فقط بل المستقبل بالتحديد. الميليشيات والجماعات الإرهابية، هي العنوان الذي يؤهله صانعه لمسح الحاضر، من أجل صناعة قيم مختلفة في كل مناحي الحياة من السياسة إلى الفكر والثقافة والفن والاجتماع والاقتصاد، ثم والأهم إلى تقسيم ليبيا. يقول المناضل العربي الشهير شيخ المجاهدين عمر المختار (1858 ـ 1931): إنني أؤمن بحقي في الحياة وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح. ولكن حينما أقاتل كي أغتصب وأنهب لأعيش أكون غير جدير بحمل صفة إنسان ولا بالدفاع عن حقي في الحياة. تلك هي تبعات المعادلة التي تنطبق اليوم على غزاة ليبيا فرداً فرداً..

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب  و لا تعبر عن سياسة البوابة