مصطفى حفيظ

قد يبدو التوتر الذي يشوب العلاقات الجزائرية الاسبانية في ظاهره أنه توتر دبلوماسي مردّه إلى التغيّر في الموقف الاسباني إزاء النزاع الصحراوي والميل لمقاربة الحكم الذاتي التي يقترحاه المغرب لحل المسألة مع جبهة البوليساريو، ثم إعلانها مؤخرا تزويد المغرب بالغاز الذي تستورده في عملية عكسية، ما اعتبرته الجزائر نوعا من الاستفزاز، لكن ما الدافع الذي حرّك اسبانيا لاتخاذ مثل تلك المواقف؟ هل من أجل تطبيع العلاقات مع المغرب؟ أم تخوفها من تحول الجزائر إلى بعبع في جنوب المتوسط خاصة وأنها أبدت مخاوفها سابقا من التسلح الجزائري الملفت للانتباه؟ أم أن الأمر يدخل ضمن خطة غربية بقيادة الولايات المتحدة لمنع الجزائر من التحول إلى قوة إقليمية في المتوسط والظفر بمشروع الغاز نيجيريا-أوروبا عبر صحراءها؟ 

لقد كسرت إسبانيا بحكومتها الجديدة العرف الدبلوماسي الذي سارت عليه الحكومات السابقة المساندة للقضية الصحراوية، حيث أعلنت في مارس الماضي تخليها عن مبدأ الحياد في القضية الصحراوية وقرارها الجديد بمساندة المٌقترح المغربي لحل النزاع الصحراوي، وقالت إنها أعلمت الجزائر بتغيير موقفها، لكنها دخلت بذلك في توجه جديد وتّر العلاقات مع الجزائر، التي أعربت عن استياءها من ذلك، حيث كان الرئيس الجزائري قد ندد صراحة بهذا التحوّل في الموقف، ووصفه بغير المقبول أخلاقيا وتاريخيا، مع أن اسبانيا كانت سببا في الصراع بحكم أن الصحراء الغربية كانت مستعمرة تابعة لها، لذلك كان هذا الموقف "انقلابا مفاجئا" بالنسبة للجزائر التي تدعم خطوات الأمم المتحدة لحل المسألة، وكان الردّ أن استدعت سفيرها من مدريد بعد القرار الاسباني بيوم، مؤكدة بأن موقف الحكومة الاسبانية غيّر كل شيء بخصوص العلاقات مع اسبانيا.   

الظاهر أنّ اسبانيا راهنت على عودة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب بإفساد علاقاتها مع الجزائر، ولم تجد من سبيل لإعادة المسار الدبلوماسي مع الرباط سوى بخلق أزمة مع الجزائر على الرغم من علمها المُسبق بالموقف الجزائر، لكن ما لا يُفهم من هذه الخطوة، هو الأسباب التي تكمن وراء هذا التغيّر المفاجئ في الموقف التاريخي الاسباني من مسألة ظلّت تساندها منذ اندلاع الصراع في سبعينيات القرن الماضي، فعلى ماذا قايضت مدريد كي تتخلى عن موقفها القديم؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون شراء الصمت المغربي عن سبتة ومليلية المحتلتين من قبل اسبانيا في مقابل دعم مقترحها للحكم الذاتي في الصحراء الغربية؟ وهذا أمرٌ مرجح أيضا. لكن من جهة أخرى، تعمدت اغضاب الجزائر التي كانت علاقاتها معها جدّ طيبة على حد وصف الرئيس الجزائري، لأنّها بطريقة أو بأخرى، دخلت على خط الخلاف بين المغرب والجزائر، والذي سبق وأعلنت الجزائر بأنّه ليس بسبب النزاع الصحراوي، إذن، هل يُعد موقف الحكومة الاسبانية الجديدة موقفا سياسيا خاصا برئيسها سانشيز وحده، على اعتبار أنه لم يستشر بقية الشركاء السياسيين في البرلمان مثلما ذكرت الصحافة الاسبانية وقتها؟ أم هو التوجه الجديد لإسبانيا كدولة لا تريد أن تبقى على الحياد في الصراع المغربي الصحراوي؟ وما الذي ستستفيد منه بخسارتها لعلاقاتها مع الجزائر، رغم شراكتها الاقتصادية معها؟   

هناك أسباب ربما تكون هي الدافع وراء تغيير اسبانيا لموقفها من المسألة، ويتعلق الأمر بالمخاوف التي كانت قد أبدتها من قبل بخصوص التسلح الجزائري اللافت خاصة في السنوات الأخيرة، والذي ترجمته تلك المناورات والتجارب على الأسلحة والصواريخ التي اقتنتها الجزائر وجربت بعضها في مياهها الإقليمية في البحر المتوسط، وأيضا، قد تكون اسبانيا متخوفة من تحول الجزائر إلى قوة في جنوب المتوسط بحكم أنها تمتلك منظومة تسلح متطورة، حيث كانت قد اقتنت طائرات روسية متطورة من نوع "سوخوي 57، وسوخوي 35"، والتي تفوق في قوتها الطائرات الأمريكية، وامتلاك الجزائري   لمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية المتطورة "إس 400" جعل بلدان حوض المتوسط تحسب للجزائر ألف حساب، وربما بدأت دول كفرنسا واسبانيا على وجه الخصوص تراها كقوة إقليمية متوسطية، وربما بدأت إسبانيا تنزعج فعلا أو ربما تقلق من تحول الجزائر إلى بعبع عسكري وطاقوي في جنوب المتوسط، ولعل هذا ما يفسر محاولاتها التخلي عن تبعيتها للغاز الجزائري وبحثها عن موردين آخرين، كي لا تضطر للمقايضة بمواقفها من أجل الغاز، لكن فوق كل هذا، لماذا أعلنت اسبانيا عن تزويد المغرب بالغاز برغم أنف الجزائر، علما أن اسبانيا مرتبطة بعقود شراكة لاستيراد الغاز الجزائري؟ 

مما لا شك فيه، هو أن الأهداف غير المعلنة للمواقف الاسبانية الأخيرة إزاء النزاع الصحراوي ومسألة الغاز، هي دعم الجهود الدولية التي تريد للمغرب أن تفوز بصفقة مشروع الغاز النيجري العابر للصحراء، لأن اسبانيا ستستفيد حتما من هذا المشروع في حال مرّ الأنبوب عبر المغرب، أما إذا مرّ عبر الجزائر، فستضطر للتفاوض بشأنه من أجل الاستفادة منه، وفي جميع الأحوال، فإنّها بمواقفها الأخيرة، تكون مدريد قد اختارت حليفها في الصراع الدائر حول هذا المشروع، لأن أوروبا والولايات المتحدة متخوفة من فوز الجزائر بهذه الصفقة التي ستحوّلها لقوة طاقوية إقليمية في حول المتوسط، وما يؤكد بأن اسبانيا بحكومتها الجديدة قد دُفعت لتغيير موقفها من أطراف أخرى، هو هذا التخوف من تحول الجزائر إلى بعبع طاقوي وعسكري، خاصة بحكم علاقاتها المتينة مع روسيا في المجال العسكري، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما يحدث حاليا بين روسيا وأوكرانيا، وكيف انعكس على بقية أوروبا.

تكون الجزائر قد عاقبت اسبانيا بتوقيعها لعقود شراكة جديدة مع إيطاليا لتزويد أوروبا بالغاز بعد تحول موقفها إزاء النزاع الصحراوي، وهي رسائل ضمنية لمدريد كي تفهم فداحة موقفها، الذي زادت حدّته بعد إعلان عزمها على تحويل الغاز الذي تستورده إلى وجهة عكسية باتجاه المغرب، هذا القرار الذي قالت اسبانيا بأنها أبلغت الجزائر به، زاد من حدة التوتر بين البلدين ووصل الأمر بالجزائر إلى التهديد بوقف امدادها بالغاز وفسخ عقد الشراكة معها، وطبعا، نفذت اسبانيا قرارها بضخ الغاز نحو المغرب متحججة بأنه مصدره ليس من الجزائر، وهو الأمر الذي يبدو بأنه سيعصف بالعلاقات الدبلوماسية نحو مزيد من التوتر، وربما القطيعة بين البلدين، فهل تريد اسبانيا وصول العلاقات إلى هذا الحدّ؟ أم أن الخلافات السياسية للحكومة الحالية مع منافسيها السياسيين ستدفعها لانتهاج سياسة مغايرة مع الجزائر؟