كيف تكون المصالحة الوطنية في ليبيا من غير حوار شامل بين فئات ومكونات الشعب؟ وكيف تكون المصالحة حقيقية من دون تضحية؟ وقبل كل هذا كيف تستمر المصالحة من دون مصارحة؟ هذه الأسئلة وسواها باتت ملحة على المواطن الليبي الذي يريد أن تتحقق المصالحة الوطنية بعد المحنة الوطنية الكبرى التي أنهكت الجميع. المصالحة يعني أن تعترف أطراف الصراع أنها أخطأت هنا وأنها أصابت هناك، يعني أن يعتذر المخطئ وأن يتحمل نتيجة خطئه والعفو يبقى الأسمى في أجواء المصارحة والمصالحة والود وصفاء النوايا والقلوب. يجب أن يعترف حكام وزعماء وساسة ليبيا اليوم، أنّ شرخَ الانقسام السياسي بدأ يكبر ويتعاظم، هذا ليس من باب اليأس، فمن أتعبته رياح اليأس العاتية فليتذكر امتلاكه جبال الصبر، لكنها رؤية واقعية لوطن بات الجميع يختلف فيه حتى على حقوقه، فما زال الحضور قوياً لمن ليست له مصلحة في انتهاء الانقسام السياسي في ليبيا بدءاً من الفاسدين الذين يستغلون الأوضاع المأساوية التي يعيشها المواطن لممارسة الابتزاز والفساد مروراً بتجار الأزمات وأدوات القتل والدمار وانتهاءً بالعدو الخارجي البغيض.

إن الدعوة التي أطلقها رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان الليبي، فتحي باشاغا، الأحد 01/05/2022، في جوهرها الوطني والأخلاقي والسياسي ترتكز على إيمان حقيقي بضرورة جلوس كل الأطراف الليبية حول طاولة الحوار لوضع مرتسمات لحل يرسمه الليبيون أنفسهم، يشكل خارطة عمل سياسي واجتماعي واقتصادي للمرحلة القادمة تكون ميثاقاً وطنياً وبمثابة قاعدة ارتكاز للانطلاق نحو ليبيا جديدة تتفتح فيها طاقات كل أبناء الوطن دون استثناء أو تمييز أو تفرقة لبناء وطن قوي.‏ وقد أعلن فتحي باشاغا، عزم حكومته إطلاق حوار وطني، بهدف التواصل المباشر مع الأطراف كافة والوصول إلى توافق وطني حقيقي في ليبيا. وأضاف: "لا يمكن لهذه الفوضى أن تستمر، ولا يمكن لهذا الظلم أن يبقى...". ونحن نتفق مع السيد باشاغا أنّ الحوار قيمة أخلاقية وسياسية عظيمة ومنهج رشيد في إدارة التباينات وبالحوار تترسخ قيم التسامح والتعاون والتكامل ويغدو المجتمع الليبي أكثر أمناً واستقراراً وأكثر بعداً عن بواعث التمزق وبواعث العنف والتطرف، وهذا شيء صحيح، ولكننا نتساءل: هل تستطيع حكومة باشاغا الموازية لحكومة الدبيبة، أن ترفع دعائم الحوار في ظل الأزمة المركبة التي تعصف بليبيا من الداخل والخارج بعد أن اختلط الحابل بالنابل؟ 

من الطبيعي أن الوطني مهما كانت لديه رؤى تحسب الخلاف أو الاختلاف من غير اللائق به أن يعرقل عملية الشروع باللقاء، والتحاور، وتحديد ما الخطوط العريضة للتوافق، أو القواسم المشتركة للحل، فالمهم بالأمر أن يوجد الشريك الوطني بالحوار كامل الشراكة وأن يرى الجميع بالعين الليبية الواقع الليبيَّ والوقائعْ، وأن يكون سلّم الأولويات لديهم سليماً يصل بالليبيين إلى تحديد صورة ما هم عليه، وصورة ما يجب أو يجدر بهم أن يكونوا فيه. وللموضوعية يجب أن نقر بوجود خلافات فكرية واسعة على ساحة ليبيا، وهي في مجملها حالة صحية فيما لو استوعبنا كيفية استثمارها جميعها مهما تباينت المسافات وتباعدت، على ألا تتعدى هذه الطموحات والتطلعات الحدود الحمراء التي لا يُقبل مجرد طرح فكرة الحوار خارجها، وهي مصلحة ليبيا العليا متمثلة في الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وعلى رأسها مؤسسة الجيش العربي الليبي، والتمسك بسيادة واستقلال القرار الوطني وعدم القبول بالتدخل الخارجي من أي جهة كانت.

إن ليبيا اليوم بكل أطيافها مدعوة إلى الحوار الجاد البعيد عن المفاهيم الضيقة أو الدوافع الانتهازية أو المطالب الفئوية، فلم يعد الليبيون يتحملون اليوم مزيداً من وضع المتاريس الفكرية أو التاريخية ولم يعد مهماً السجالات حول المصطلحات والتعبيرات، وإنما المهم هو جوهر ومضمون ودلالات هذه المصالحة على حياة الناس وأحوالهم، دون أن يؤدي ذلك إلى تحميل المجتمع أعباء وتكاليف جديدة. وليس مقبولا من الحوار أن يكون مجرد إجراء شكلي عقيم لا ينتج إلا مزيداً من التناقض والتباعد، ولا أن يكون الحوار مجرد عمل ترفي سياسي ينتج عنه انتزاع شرعية لسياسة خاطئة أو موقف له تكلفة وأعباء كبيرة، أو يولد اصطفائية تدفع الدولة والمجتمع إلى حالة الانقسام والتمزق والتطرف.

من هنا يمكن القول إن متطلبات المصالحة الوطنية تبدأ أول ما تبدأ، بفرض هيبة الدولة، وتفعيل حوار وطني شامل، متجه نحو إلغاء الانقسام السياسي، وتتطلب المصالحة الوطنية أول ما تتطلب أن تكون محل اتفاق الجميع، وهذا يعني أن القوى الجماهيرية تشق طريقها عبر الحوار، متوحدة متصالحة في خدمة الوطن، وأحوج ما تكون إليه ليبيا اليوم، هو خلق هذه الحالة من المناخ الديمقراطي الذي يمكن الشعب الليبي من النهوض والمواكبة، لبناء الدولة الليبية المتوافقة مع مطالب الشعب، فالمواطن الليبي ينشد الاستقرار، ويحتاج أن يكون أمناً على نفسه، وأسرته، وعرضه، وماله، يريد حلولاً لمشاكله، ومعاناته، كما يريد استعادة الأمن، ومحاربة البطالة، والاستعانة بالأكفاء، وترسيخ دولة القانون، وعدم الانحياز لتيار سياسي أو عقائدي معين، يريد محاربة الفساد، وحل المشاكل التي تسيء إلى السلم الاجتماعي والنفسي، كي ينجز الاقتصاد القوي المتين، ويحسن سبل العيش برفع الأجور، والحد من البطالة، وتثبيت الموقتين، وإقصاء الأدوات الفاسدة المتغلغلة في الجهاز الإداري للدولة، وإعطاء الكفاءات فرصتها للمساهمة في قيادة المجتمع نحو الكفاية والعدل، بعد أن عانت الكثير من الإقصاء والتهميش، وكم الأفواه، الذي غيب سبل الحرية والديمقراطية، وحرم المجتمع من إنجاز الدولة المدنية، التي تتطلب معارضة وطنية قوية، تتنامى بالتفاعل مع شموخ الوطن، بعيداً عن التطبيل والتهويل الإعلامي المتبع، الذي يفتقر إلى الحيادية والموضوعية التي تتطلبها مبادئ وقيم الحكم الرشيد. 

وحتى تنجو ليبيا من الفتنة المدبرة والانقسام السياسي، وكي لا تذهب نحو الفوضى والانهيار، فالحل بسيط ويستند إلى مبادئ متفق عليها في علم السياسة وفي التجربة السياسية المعاصرة، وهي مبادئ عامة تنطبق على جميع الحالات المتأزمة بغض النظر عن الاختلاف في الثقافات أو في البنى البشرية والتاريخية لهذا البلد أو ذاك. وفي نظرنا يتطلب الحل وفاقاً حول أهداف عامة مشتركة، وآليات التوصل إلى حلول فنية لتحقيق هذه الأهداف، ثم ما يسمى بالتحقق، كي يكون التحقيق مضبوطاً، وينبغي أن تكون الأهداف العامة أو الغائبة مشتركة بين الجميع، وهي أهداف وطنية بالضرورة، خلاصتها إنقاذ ليبيا وحمايتها وإعادة بنائها عمرانياً وسياسياً على أساس مشاركة الجميع في الحياة السياسية، كل حسب حجمه وتأثيره في أوساط الشعب، وهنا من الضروري التأكيد على أن استقلال ليبيا وسيادتها الوطنية مسلمات غير قابلة للنقاش. أما آلية التوصل إلى الحل، فمن وجهة نظرنا، فالحوار وحده هو السبيل للتفاهم، ويقوم على أساس مشاركة الجميع دون إقصاء شرط أن يكونوا وطنيين، وهناك معياران بديهيان لقياس الوطنية: الامتناع عن القتل والتدمير، وعدم الارتهان إلى الخارج في المواقف والتمويل. أما معيار التحقق، فينبغي العودة دائماً إلى الشعب الليبي باعتباره صاحب السلطة ومصدر السيادة، وذلك عبر آليات معروفة، وهي الاستفتاء بالنسبة للحلول العامة، وصندوق الاقتراع بالنسبة لاختيار القيادات... هذا هو الحل الواضح في تصورنا، وهو من حيث المبدأ لابد أن يكون مقبولاً من الجميع لأنه يتعلق بمنطلقات أضحت مسلمات في جميع أنحاء العالم.

خلاصة الكلام: لعل طريق المصالحة الوطنية طويل وشاق، يحتاج إلى خبرة وحكمة وصبر، يحتاج إلى مكارم الأخلاق والنبل العفة، يحتاج إلى المصارحة والتسامح والتعالي عن الجراح، مطلوب تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية، لتنهض ليبيا متعافية، ويعرف كل ليبي أن الجميع شركاء في الوطن، يعيشون فيه، ويعيش فيهم، مطلوب التوافق المجتمعي بإيجاد الحلول للانقسامات السياسية الحاصلة، وإنجاز الإصلاحات المطلوبة والمستحقة، مطلوب حكومة سياسية قادرة على رأب الصدع، والعفو عند المقدرة، الذي لا يعني التصالح في قضايا القتل والإجرام، أو التفريط بدولة القانون.