برهان هلّاك

وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتاريخ 3 أفريل الجاري انتقاده لما أسماه الممارسات السياسية المنحرفة عن المسار الديمقراطي بتونس التي يأتيها الرئيس التونسي قيس سعيد؛ جاء هذا التصريح على نحو يشي بـ "توبيخ" على قرار حل البرلمان في 25 جويلية الماضي، والذي تمّ اعتباره “تشويها للديمقراطية” وضربا لإرادة الشعب التونسي". وقالت الرئاسة التركية في بيان لها أنّها “تأسف لحل مجلس نواب الشعب التونسي”، وليضيف الرئيس التركي أمانيه بألّا تؤدي هذه التطورات إلى إلحاق الضرر بالمرحلة الانتقالية الرامية إلى إرساء شرعية ديمقراطية في تونس.

وفي رد فعل تونسي رسمي على هذه الانتقادات التركية بشأن حل البرلمان نهائياً، أكّدت الخارجية التونسية رفض الرئيس قيس سعيد وحكومة الدولة التونسية أي تدخلات أو ضغوطات خارجية في الشؤون الداخلية لتونس. وفي بيان لها بتاريخ 5 أفريل الحالي، استغربت الخارجية التونسية تصريحات الرئيس التركي أردوغان، وأشارت إلى أنها تعتبر هذا التصريح تدخلاً غير مقبول في الشأن الداخلي، ويتعارض تماماً مع الروابط الأخويّة التي تجمع البلدين والشعبين ومع مبدأ الاحترام المتبادل في العلاقات بين الدول”. واسترسل البيان بالتأكيد على أن تونس تتمسك باستقلال قرارها الوطني، وترفض بشدّة كل محاولة للتدخل في سيادتها وخيارات شعبها أو التشكيك في مسارها الديمقراطي الذي لا تعتزم التراجع عنه.

وبغض النظر عن مدى الصوابية الديبلوماسية لهذا التصريح الانتقادي، فإنه يعكس، من جملة ما يعكس، السكيزوفرينيا السياسية التركية المعهودة، والتي تواصلت إلى حد الأيام القليلة الماضية وبالتحديد عندما تناهى إلى أسماعنا خبر أوردته قناة العربية مفاده اعتزام رفع الحصانة عن نواب بالبرلمان التركي لمعارضتهم للرئيس التركي أردوغان؛ قدّم التحالف الحاكم في تركيا، والذي يضمّ حزبي "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية" 23 ملفاً للبرلمان التركي تمهيداً لإسقاط الحصانة النيابية عن 18 من نواب حزبٍ معارضٍ للرئيس رجب طيب أردوغان. وبذلك يرتفع عدد النواب الذين ينتمون لحزب "الشعوب الديمقراطي" المؤيد للأكراد، والذين يطالب التحالف الحاكم منذ بداية العام الماضي بتجريدهم من مقاعدهم البرلمانية، إلى 27 نائباً بما في ذلك الرئيسة المشاركة للحزب بروين بولدان. ومن المتوقع أن تتسبب هذه الملفات التي سيناقشها البرلمان لاحقاً بإسقاط الحصانة النيابية عن أولئك النواب، ما يمهد الطريق أمام سجنهم لاحقاً بذريعة وجود صلاتٍ بينهم وبين حزب "العمال الكردستاني" الذي يخوض تمرّداً مسلّحاً ضد أنقرة منذ صيف العام 1984. وبذلك، فإنه لا يجب على من ينهى عن خلق أن يأتي مثله، فمن يقلق على وضع الديمقراطية التونسية وضرب إرادة الشعب عبر حل البرلمان بالبلاد التونسية لا يخوّل له التخطيط لانقلابات ناعمة بالبرلمان التركي عبر إخماد الأصوات المعارضة له ضمانا لأحادية بعد سياسية لا تعكس إلا هوسا بالتفرد بالسلطة.

بالإضافة إلى تجزئة المبادئ الأخلاقية الديمقراطية بتلك الطريقة الصارخة، فإنه تجدر الإشارة إلى أنّ مخاوف الرئاسة التركية ليس منبعها قلقا على الديمقراطية كممارسة ومنهاج سياسي نبيل، بل خوف الرئيس التركي وكل قلقه على "الديمقراطيين" الذين أقصاهم قرار حل البرلمان عن اللعبة السياسية، في الوقت الحالي على الأقل؛ تربط حزب حركة النهضة الإسلامية بتونس، بوصفها أحد أبرز "الفاعلين الديمقراطيين" مناط رعاية الرئيس التركي، علاقات وطيدة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، إلى جانب علاقات متينة بين أردوغان ورئيس الحزب المذكور، راشد الغنوشي، الذي التقى أردوغان مراراً في السنوات الماضية. من هذا المنطلق، يعرب   حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا عن “أسفه وقلقه البالغ جراء حل مجلس النواب التونسي”، مؤكدا على ضرورة “عدم التفريط بالمكتسبات الديمقراطية للشعب”. وهو كذلك ما دفع المتحدث باسم الحزب، عمر جليك، للتصريح في مؤتمر صحافي بمقر الحزب في أنقرة بأن التطورات الأخيرة تشكل خطرا على مكتسبات الشعب التونسي، وينبغي تجنب مثل هذه الخطوات، أي حلّ البرلمان، والتي تتعارض مع الدستور التونسي.

إن هذا الموقف التركي من الأزمة السياسية في تونس هو الأكثر حدة منذ عدة أشهر شهدت خلالها السياسة الخارجية التركية تحولات كبيرة اتجهت نحو إصلاح العلاقات مع العديد من الدول العربية. كما أنّه التصريح الأول من نوعه منذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد عن اتخاذ التدابير الاستثنائية في 25 جويلية الماضي. وبالتالي، فإن من شأن هذ الانتقاد التركي لقرار حلّ البرلمان بشكل نهائي أن ينعكس سلباً على علاقات تركيا مع القوى الإقليمية التي تساند الرئيس التونسي، بل وتدعم خارطة الطريق التي اقترحها للإصلاح السياسي في البلاد؛ تأتي في صدارة هذه البلدان مصر وبعض دول الخليج كالإمارات المتحدة التي بدأت تركيا إعادة تأهيل العلاقات معها مؤخرا تمهيدا للدخول في مسارات صلح سياسي وتطبيع ديبلوماسي واقتصادي يرغب فيه الجانب التركي بشدة باعتبار الهزات الاقتصادية التي تعيش البلاد على وقعها منذ فترة. وبذلك يحتمل أن تعتبر القوى الإقليمية الداعمة للرئيس سعيد المواقف التركية خطوة عدوانية لا تنم عن حسن نوايا. ويمكن أن تساهم هذه التصريحات إلى ذلك في تعميق الخلافات السياسية مع تركيا بما يثبته ذلك من تهديد للسلم الإقليمي، الأمر الذي قد ينعكس بدوره على حالة عدم الاستقرار في تونس ذاتها.

تظهر الانتقادات التركية لحل البرلمان في تونس في هذا التوقيت قلقا تركيا متزايدا في ظل تصاعد محاصرة حلفائها المحليين، وبخاصة حركة النهضة التي تمثل امتداداً أيديولوجياً لحزب العدالة والتنمية التركي. وهو الأمر الذي يحمل تداعيات على مصالح تركيا في تونس. وبذلك تذوّب تركيا موقفها هذا في مزيج يتماهى والمواقف والضغوط الخارجية التي ترفض الممارسات السياسية للرئيس قيس سعيد بتونس، وبخاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي؛ لقد تزامنت الانتقادات التركية مع زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لتونس في 24 مارس الماضي، والتي حاولت خلالها إقناع الرئيس قيس سعيد بإنهاء التدابير الاستثنائية والسماح بعودة البرلمان لسالف نشاطه التمثيلي. ومن ثمة فإن المسعى التركي الحقيقي لا يتمثل في مناصرة مبدئية لحق الشعب التونسي في الديمقراطية، بل إنّه مسعى يهدف إلى تبديد صور نمطية عالقة بأذهان حلفاء تركيا الغربيين، وإلصاق صورة جديدة تبرزها على أنها شديدة الحرص على تدعيم قيم الحرية والحوار في المنطقة، وأنها تشارك الغرب قيمه الديمقراطية.

إن الحديث عن أن قيس سعيّد قد حاول التصعيد مع المسؤولين الأتراك من أجل كسب ود جزء من الشعبويين، وجزء من النخب التونسي التي لديها توتر بنيوي تجاه ما تمثله تركيا وما سعت للقيام به في المنطقة في السنوات الأخيرة، لهو من قبيل تبديد الحق في رفض التدخلات السافرة في الشأن الداخلي التونسي؛ إن التونسيين، على علّات مناهجهم في تقدير الأمور، غير محتاجين لنصائح ديمقراطية ذهبية يقدمها من يكاد يفني نفسه ووطنه في إعادة تشييد " الباب العالي".