مصطفى حفيظ 

يبدو أنّ السلطة في الجزائر تمكّنت أخيرا من تحييد "الحراك الشعبي"، أولا باختصاره في حركتين وسمتا بالإرهابيتين، وهما حركة رشاد 'الإسلامية'، وحركة الماك "الانفصالية" التي تدعو لاستقلال منقطة القبائل، وهما حركتين أثرتا سلبا في الحراك وعطّلتا "الحلم الديمقراطي" الذي خرجت من أجله الملايين للشارع، وثانيا بحصره في منطقة القبائل فقط، بينما ضيّقت الخناق على العاصمة ومنعت المسيرات منذ أكثر من شهر، واتبعت في ذلك حملة اعتقالات طالت نشطاء بارزين فيه، والسؤال الملّح هنا هو: هل قضت عليه فعلا؟ وإن كان كذلك، فما معنى بقاء المسيرات المناهضة للنظام الحاكم في ولايات القبائل دون غيرها؟

يمكن قراءة "الحراك الشعبي" في واقعه الحالي من زاويتين، الأولى أنّ السلطة نجحت فعلا في تحييده وتقزيمه، إنّ صحّ التعبير، إلى درجة انحصر فقط في ولايتين بمنطقة القبائل شرق العاصمة، وهما تيزي وزو وبجاية، وبالنتيجة قضت على كل تأثير ممكن لهذا "الحراك" في المستقبل، والزاوية الثانية هي أنّ الحراك لا يزال قائما بشكل أو بآخر، ربما نجحت السلطة بالفعل في خنقه على الأرض، أي قضت عليه جسديا من خلال منع المسيرات أو حصرها في جهة معيّنة فقط، بينما الحراك كفكرة، أو لنقل كأنجدة سياسية معارضة للسلطة أو النظام الحاكم ككل، ما يزال قائما، وهذا برغم اختراقه من الإسلام الأصولي الذي تغّذيه أطراف خارجية ويتحدث باسمه المعارض الجزائري في بريطانيا العربي زيتوت، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أخترق من طرف أنصار الماك "حركة استقلال منطقة القبائل" الذين وجدوا مسيرات الحراك، هم أيضا، فرصة لرفع شعاراتهم بشكل ما، ولعل الاختراق الأخطر هو من طرف حركة رشاد "الإسلامية" لأنها بطريقة أو بأخرى تشكّل تهديدا أمنيا مخفيا، فكل أفكار زعيمها والقيادة التي معه هي أفكار أصولية متطرفة تبنّتها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحلّة والمعروفة اختصارا بـ "الفيس"، وهي حركة ذات أفكار شمولية، ورشاد لعبت على وتر الإسلام والعروبة من منظور شمولي يخترق كل المجتمع، بينما حركة "الماك" برغم خطورة الفكرة، إلا أنها تلعب على وتر الجهوية أكثر، لذلك، فسواء هذه الحركة أو تلك، فالاثنتين معا فوّتتا على الحراك الشعبي فرصة "حلم الديموقراطية" التي خرج من أجلها الملايين. 

انعدام قيادة تمثّل "الحراك" سهّل مهمة تبديده 

بالنسبة للنقطة الأولى المتعلقة بفكرة نجاح السلطة في ردع الحراك الشعبي وتفكيكه، نقول هنا إنّ هذه النتيجة كانت تحصيل حاصل لسببين استغلهما النظام الحاكم لصالحه، أولهما أنّ هذا "الحراك" ومنذ انطلاقته بتاريخ 22 فبراير/شباط 2019، لم ينجح في تكوين قيادة له، أي أن المسيرات الشعبية التي كانت في كل مرّة تعرف التحاق مئات الآلاف بها، وفي كل الولايات، كانت بشكل ما تتحرك طبيعيا وعفويا دون قيادة، أو هكذا كان يبدو، بالرغم أنّ الشعارات التي كانت ترفع من حين لآخر، كانت تتوحد سريعا وترفع في باقي المسيرات المنظمة في الولايات الأخرى، كشعارات "الأفلان إلى مزبلة التاريخ .. الأفالان ارحل ... جبهة التحرير إلى المتحف."، وهذا يعني أن الاختراق مثلما ذكرنا آنفا، كان يحدث تدريجيا بالفعل، ربما كانت الشعارات تتوحد بسرعة وتشتّد حماسة وتمرّدا بفعل تلك الحماس التي عاشته الحشود المناهضة للسلطة الحاكمة والتي كانت توصف بلفظة "العصابة" في إشارة الى نظام الرئيس الأسبق بوتفليقة، وبالطبع، كانت شعارات مقنعة بحكم أن الجميع توحّد من أجل معارضة عهدة خامسة للرئيس آنذاك، ومع الوقت تمكّن الجيش من اكتساب ثقة المتظاهرين لدرجة أطلقت شعارات مثل "جيش شعب خاوة خاوة " أي الشعب والجيش إخوة وهي دلالة على ثقة الشعب في الجيش الجزائري الذي ساند الحراك وارغم بوتفليقة على الاستقالة، وقد لا يهم الآن العودة لما قيل سابقا بخصوص علاقة الجيش ببوتفليقة وقتها، لأنّه قد تمّ في النهاية طيّ تلك الصفحة واستقال الرئيس وحوكم افراد "العصابة" ومعظمهم في السجن الآن، لكن مع ذلك استمر الحراك واستمرت الجماهير المشاركة فيه بالرفع من مطالبها وأبرزها رحيل النظام تحت شعار "ترحلوا ڤع" أو ترحلون جميعا، والمقصود كل بقايا نظام بوتفليقة، مع ذلك صمدت السلطة ونظّمت انتخابات رئاسية في 12 ديسمبر 2019، واستمر الحراك في نفس الوقت وشهدت بعض الولايات اقتحامات لبعض المراكز الانتخابية وتخريبها (في منطقة القبائل بالأخص)، لكن مرّت الانتخابات وخرج الرئيس الحالي منتصرا على أربعة مرشحين آخرين، وبدأت السلطة رويدا رويدا تفرض سياسة الأمر الواقع، برغم الرفض المستمر لنشطاء الحراك على اختلاف ايديولوجياتهم السياسية والفكرية، لكل ما تقدّمه السلطة من حلول، سواء استفتاء الدستور، أو اقتراح تشكيل ممثلين عن الحراك والمشاركة في السياسة بالترشح للانتخابات، مثلما فعل البعض في التشريعيات الأخيرة يوم 12 يونيو.  

فشل مستمر لتنظيم مسيرات "الحراك" في العاصمة  

إلى وقت قريب، لا أحد كان يصدّق أن المسيرات المناهضة للسلطة في العاصمة على وجه الخصوص ستتوقف، ويتم تفريق الحشود لدرجة أن ذلك الحماس الذي كان لدى مئات الآلاف من المتظاهرين قد خمد بمجرد الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها وزارة الداخلية الجزائرية والقاضية بضرورة تصريح منظمي المسيرات الأسبوعية بأسمائهم قبل انطلاق المسيرة، ثم تقديم توضيح حول مسارها وانطلاقها وكذا الشعارات المرفوعة فيها وفق ما يتطلبه القانون، فمنذ آخر جمعة خرجت فيها مسيرات الحراك يوم 7 مايو/أيار 2021، لم ينجح نشطاء الحراك في تنظيم أيّ مسيرة في العاصمة، على عدّ أن العاصمة هي مركز الحراك والأكثر تأثيرا من باقي المحافظات الأخرى، وشوهدت قوات الأمن تطوّق كل المنافذ المؤدية للشوارع الرئيسية أبرزها شارع ديدوش مراد، العربي بن مهيدي، حسيبة بن بوعلي، زيغود يوسف وشارع العقيد عميروش، وهي شوارع امتلأت في المسيرات التي نظّمت قبل تاريخ السابع من مايو، آلاف المشاركين، لكن مع موجة الاعتقالات والحواجز الأمنية وعمليات التفتيش المستمرة صبيحة كل جمعة، منعت من تنظيم مسيرة ناجحة، حتى تلك المحاولات التي سجّلت في أحياء غير رئيسية في العاصمة تم تفريقها ولم تحدث صدى اعلامي، بدليل أنّ الحديث عن الحراك ككل في العاصمة أو في أية منطقة أخرى اصبح من الماضي، ولعلل الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي نظّمت يوم 12 يونيو/حزيران الماضي، طغت على الأحداث، ورسمت مشهدا يمكن وصفه بالسياسي أكثر، بحكم المشاركة الواسعة للقوائم الحرّة في الانتخابات، أو بعبارة أدق، كشف تهافت المترشحين الشباب على القوائم الحرّة والأحزاب للمشاركة في الانتخابات أن فكرة التغيير عن طريق المسيرات المناهضة للسلطة لم تعد فكرة مجدية، حتى أنّ بعض النشطاء في الحراك، حسب مصادر إعلامية جزائرية، بدأوا فعلا بتقديم مبادرات سياسية لتشكيل أحزاب، وهي خطوة ضمنية تؤكد التخلي عن فكرة الحراك عبر الشارع والاتجاه نحو القبول بفكرة التعامل مع السلطة بشكل سياسي وفقا للقانون.

حصر "الحراك" في منطقة القبائل 

لعل أكبر انتصار للسلطة على الحراك هو حصره في منطقة القبائل فقط، بحيث يخرج الآلاف من نشطاء الحراك في كل ولايتي تيزي وزو وبجاية في مسيرات أسبوعية كل جمعة، أي أنّ الحراك في هذه المنطقة لم يتوقف إلاّ بضعة أشهر بسبب جائحة كورونا، لينطلق مجددا بعد قرابة عام من توقفه، وقد نجح المتظاهرون في آخر جمعة أعقبت الانتخابات الأخيرة على تنظيم مسيراتهم بالمنطقة، في وقت لم ينجح نظراءهم في العاصمة في تنظيمها بسبب التطويق الأمني لكل منافذ الشوارع الرئيسية التي اعتادت أن تشهد مسيرات حاشدة قبل منتصف ماي الماضي، إذن، تم تحييد الحراك الشعبي وتقزيمه وحصره في منطقة معيّنة، وهي المنطقة الأكثر تمرّدا في الجزائر منذ الاستقلال، أي منذ أن تمرّد المجاهد الراحل حسين آيت أحمد على الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلّة في 1963. أما الآن، فلا يعني حصر الحراك في منطقة القبائل فقط إلا فكرة واحدة وهي أنّ الحراك انتهى في كل ولايات البلاد وأن القبائل الأمازيغ فقط هم من يتظاهرون، خاصة وأنّ المنطقة تشهد منذ أحداث الربيع الأمازيغي في سنة 1980حراكا مستمرّا، بحيث كانت الجماهير تخرج سنويا بتاريخ 20 أفريل من كل عام تخليدا لذكرى أول مظاهرات حدثت بعد منع الكاتب مولود معمري من القاء محاضرة حول الشعر الأمازيغي آنذاك بالجامعة بتيزي وزو، ومنذ ذلك الحين وعلى مدار السنوات، رافع سكان المنطقة لصالح هويّتهم الأمازيغية، وتعاملت السلطة مع الأحداث بمزيد من التهميش، والآن، مع حصر الحراك في هذه المنطقة بالذّات، على الرغم من أنه حراك شعبي شارك فيه الملايين من الجزائريين مطالبين بالتغيير وبرحيل رموز الفساد من الحكم، تكون السلطة قد أزاحت عقبة كبرى كانت تزعجها فعلا، بغضّ النظر عن كون هذا الحراك اخترق فعلا من طرف الإسلاميين، أما وهو مستمر في منطقة القبائل، فالأكيد أنه لن يكون مزعجا لها بما أن الأمازيغ كثيرا ما خرجوا ورفعوا شعارات مناهضة للسلطة أشهرها شعار "السلطة مجرمة pouvoir assassin ". ومهما يكن، فإنّ اختزال الحراك بهذا الشكل في منطقة القبائل سيجعل المنطقة عرضة لدعاة الانفصال من حركة "الماك"، والأكيد أن ذلك لا يخدم السلطة.

بالنتيجة، يمكن القول إنّ الحراك الشعبي على الأرض قد تم تحييده فعلا، وأن السلطة تجاوزت مرحلة الخطر وما تبقى منه لا يؤثر على سير مؤسسات الدولة، وحاليا تنشغل السلطة بترتيب مؤسساتها السياسية بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث ينتظر فقط تشكيل الحكومة، التي ستواجه تحدّيات داخلية وخارجية، ولعل أبرز التحدّيات الداخلية هي كيفية التعامل مع ما تبقّى من هذا "الحراك" خاصة في منطقة حساسة كمنطقة القبائل، فأي مستقبل لهذا الحراك بعد تشتيته وعزله؟