من أنتم؟! هذه العبارة التي قالها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، في بداية أحداث الأزمة الليبية التي انفجرت مع منتصف شهر فبراير 2011، تلقفتها آنذاك أفواه الدوائر السياسية والوسائل الإعلامية، وكلٍ استخدمها بما ينسجم مع هواه ويخدم مصالحه! وبدوري سأحاول في هذه المقالة الوجيزة استجلاء حقيقة من هم هؤلاء؟ وما مغزى استخدام القذافي لهذه العبارة؟

 من أنتم؟! عبارة لها دلالة لفظية مباشرة خاطب بها القذافي جموع المتظاهرين في شوارع بنغازي وما حولها من المدن الليبية متسائلاً عن ماهية حقيقة حراكهم. أو هكذا تبدو في صورتها المباشرة. لكن بالعودة للأحداث نجد أن المظاهرات التي انطلقت من مدينة بنغازي في يومي 15 و16 فبراير 2011 إنما كانت في شكل تظاهرة تأييد لمطلب التعويض العادل لبعض أهالي بنغازي من ضحايا حادثة سجن أبوسليم، غير أنها تحولت لاحقاً في شكل أعمال شغب وعنف استهدفت مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية، وبفعل المناشدات التي كانت تطلقها حركات المعارضة المقيمة بالخارج التي تدعو للتظاهر يوم 17 فبراير2011، وتدفع باتجاه التمرد على سلطة النظام الحاكم تأسياً بما جرى بالجارتين تونس ومصر، فقد تصاعدت وثيرة التظاهرات بشكل حاد وتحولت بقدرة قادر لحملة مداهمات واحتلال لمراكز الشرطة والأمن والجيش في بنغازي وبقية مدن الشرق الليبية تحت يافطة "الشعب يريد إسقاط النظام".

لذا وفي ظل مثل تلك الظروف وبالنظر لما يتميز به القذافي من براعة في فك شيفرة إدغام الكلام وقراءة ما بين السطور، لا يمكن أن تكون هذه العبارة قد جاءت على لسانه بصورة عفوية في سياق الكلام. فعبارة من أنتم؟ تساؤل قصير بليغ. فهي تطرح السؤال وتعطي الجواب في آن. فالقذافي هنا لا يخاطب من هم في الصورة المنظورة ويريد معرفة من هم هؤلاء؟ وإنما يخاطب من هم خلف الستار، ليقول لهم أنني أعرف حقيقتكم. وكأن لسان حاله يقول لمن يختفون وراء ظهور المتظاهرين، ما أنتم سوى زمرة مستغفلين تسخركم الاستخبارات الأجنبية لخدمة أجندة استعمارية تستهدف تقويض استقرار وأمن ليبيا، وضمها تحت جناح المعسكر الغربي الصليبي الصهيوني.

فهذه هي الحقيقة التي كان القذافي يدركها جيداً وحاول عبثاً تنبيه الآخرين لمخاطر المخطط الاستعماري الغربي الصليبي الصهيوني الذي يستهدف تفتيت كيان الأمة العربية وإعادة رسم خارطة دول المنطقة بما يضمن وجود دولة الكيان الإسرائيلي ويحفظ أمنها على المدى البعيد. لكن للأسف لم يصغ إليه أحد ولم يسعفه الوقت! فقد كان المخطط مرتبا بشكل جيد بحيث لا يعطي لفريسته فرصة للتحرك خارج محيط دائرته. وفي ليبيا لم يكن القذافي ليختار غير المقاومة والدفاع عن الوطن والأمة. ولله دره فقد وعد بأن لن يستسلم أبداً.. وبعهده أوفى.. فمات شهيداً على أيدي العملاء في أكبر عملية رصد وصيد مشتركة بين أجهزة الاستخبارات الأميركية والفرنسية والبريطانية والألمانية والإسرائيلية، مستعينة بطائرات بدون طيار التابعة لـ CIA الأميركية والمقاتلات الفرنسية حيث أطلقت صواريخها على موكبه صباح يوم 20 أكتوبر 2011 بمدينة سرت ومهدت للقوات الخاصة الأميركية والفرنسية والبريطانية والإسرائيلية والقطرية ميدان الاشتباك مع حراساته حيث استغرقت العملية الجوية البرية أربع ساعات انتهت باستشهاد معظم من معه وأسره مع أفراد حراسته، وتم تسليمهم في مسرحية مكشوفة لعملاء الناتو من كتائب مصراتة المكلفين بقتله وقتل أبنه المعتصم بالله.

وهكذا اشترى القذافي وأبنه ووزير دفاعه أبوبكر يونس الشهادة في ميدان المعركة مع من معهم من شرفاء ليبيا. مع العلم بأنه كان لديه أكثر من فرصة للنجاة بحياته وبقاء نظامه السياسي، ففي يونيو ويوليو 2011 سعت بعض الدوائر الأميركية للوصول إلى تسوية سلمية مع القذافي شرط قبوله بعودة أميركا لقواعدها العسكرية السابقة في ليبيا واحتكار شركاتها لصناعة النفط الليبية، وهذا ما رفضه القذافي قائلاً لممثليه "إن أميركا تريد أن تجردنا من تأريخنا، لقد قمت بالثورة من أجل طرد قواعد الأميركيان والانجليز والطليان، واليوم بعد أربعة عقود على طردهم يساومونني على العودة لقواعدهم مقابل أن يتركونني احكم ليبيا لبضعة سنوات أخرى على الأكثر!، بئس العرض”. مع أنه يعرف بأن حلف الناتو الصليبي عازم على احتلال ليبيا بالقوة المسلحة الغاشمة، حيث خاطب أنصاره المقربين قبل سقوط طرابلس مباشرة قائلاً "لن يلومنا أحد على خسارة المعركة في مواجهة أميركا وأوروبا، ولكن سيلعننا البشر والحجر إن سلمنا لهم بلدنا بإرادتنا، فان احتلوها اليوم سيأتي يوم أخر يحررها فيه من يتبقى من أبناء شعبنا".

وكانت كلاماته تلك أخر توجيهاته من معسكر باب العزيزية، فقد قرر القذافي الخروج منه وتركه خلفه بكل ما فيه، وكأن لسان حاله يقول لأنصاره بأن ترك كرسي الحكم أهون من المساومة على حرية الوطن.هذا هو القذافي لمن لا يعرفه وهذه هي مواقفه المشرفة وبالطبع زعيماً مثله لا يمكن أن يموت في قلوب أنصاره.

أما بالنسبة لمن جلبتهم الاستخبارات الأجنبية تحت مظلة قوات حلف الناتو الصليبي، ووظفتهم لحكم ليبيا، فقد سقطت الأقنعة عن وجوههم، واتضح بأن القذافي كان محقاً فما هم سوى زمرة من النفعيين متعددي الجنسيات الأجنبية الذين تركوا ليبيا لأسباب تتعلق بمصالحهم الذاتية، واستوطنوا أميركا وأوروبا وتجنسوا بجنسياتها النجسة بين قوسين والتحقوا بدوائر أنظمتها المشبوهة التي سخرتهم لمحاربة النظام الليبي من الخارج، بل أن بعضهم يعملون وإلى حينه بصفة رسمية بأجهزة الاستخبارات الأجنبية. وزمرة أخرى من المنافقين الذين اندسوا بحكومة نظام القذافي على مدى سنوات طويلة. وأخرين ممن انتهزوا الفرصة وتغلغلوا في مفاصل مؤسسات النظام السياسي تحت مظلة برنامج المصالحة والإصلاح الذي تبناه سيف الإسلام القذافي. وكل هؤلاء استخدمتهم الحكومات الأميركية والأوروبية في عملية الحرب على ليبيا وإسقاط نظام القذافي.

وبهذا نخلص إلى أن هؤلاء وأولئك الذين خاطبهم القذافي بعبارة من أنتم؟ ما هم سوى زمر من الخونة والعملاء الذين نقضوا العهد وباعوا ليبيا لحلف الناتو الصليبي مقابل توظيفهم بحكومة محميته الليبية الجديدة وعلى حساب دماء آلاف الليبيين الذين استشهدوا في ميادين المواجهة ضد الغزاة الصليبيين الجدد. فشتان بين القذافي وأنصاره.. ومن تحالف مع الناتو وباع وطنه ببطنه.

ولا يفوتني هنا أن أشير إلى حصيلة منجزات حكام محمية ليبيا الجديدة، فعلى الصعيد الداخلي تشهد ليبيا شللا تاما في جميع مناحي الحياة العامة، وفشل المجلس الانتقالي وحكومته في استعادة هيبة الدولة الليبية وعجز ملموس في إدارة مؤسسات الدولة فمعظم المرافق العامة لازالت معطلة، والمفارقة هنا أنه ورغم كل هذا الشلل فقد فاحت رائحة عمليات فساد مالي كبير تديرها بعض الرؤوس الكبيرة.

أما على الصعيد الشعبي فالمواطن الليبي عرضة للضرب والاعتقال والتعذيب وربما القتل على أيدي مليشيات 17 فبراير المسلحة التي تجوب شوارع المدن ليل نهار وتعمل ما يحلو لها خارج القانون!. فضلاً عن قيامهم بعمليات السلب والنهب للممتلكات العامة والخاصة جهارا نهارا ومن يعترض ويحاول الدفاع عن ممتلكاته فالله وحده يعلم بما قد يحدث له!. ولسان حال الحكومة يردد القول الليبي المأثور "ذنبه على جنبه"!. ناهيك عن وجود عشرات الآلاف من الليبيين والأفارقة في سجون تلك المليشيات، عرضة لكافة أشكال العقاب والنكال التي لا تخطر على بال، ومئات الآلاف من النازحين الليبيين من تاورغاء وسرت والقواليش وغيرها. 

أما أهم منجزات ثوار نكبة 17 فبراير على الصعيد العربي فقد تمثل في هدمهم للنصب التذكاري الذي أقامه القذافي ببنغازي تخليداً للزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر، ولم يكتفوا بذلك فقد استكثروا أسم جمال عبدالناصر على شارع بمدينة بنغازي فاستبدلوه باسم الاستقلال! وهنا لست أدري ماذا يعني الاستقلال لديهم.. وقد فقدت ليبيا استقلالها بفضل خيانتهم!. اللهم إلاّ إذا كانوا يدشنون لحقبة استقلال (فصل) ليبيا عن عمقها العربي.

في الختام.. بعد عام من إطلاق القذافي لعبارته الشهيرة من أنتم؟! نقول للذين نقضوا العهد وخانوا الوطن.؟ مع كل هذا الدمار الذي خلّفه حلف الناتو ببلدكم.. مازلتم تمعنون في غيّكم. بالله عليكم من أي طينةً أنتم؟!.

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة