ما حدث لجماعة الإخوان في مصر، يشبه في جوانبه الدرامية ما حدث لجماعة البرامكة عام 175 هجريا، أي منذ اثني عشر قرنا ونيف، في العهد العباسي على يد الخليفة هارون الرشيد، وأقول الجانب الدرامي، لأقصد به انتقالهم في وقت سريع من السيادة والحكم والجاه، إلى السجون والمطاردة. وما عدا هذا التوافق، فإن هناك فروقا كثيرة أقلها أن البراكمة جماعة إثنية جاءت من بلاد الفرس، تربطها علاقة الدم، وليست تنظيما سياسيا دينيا كما هي جماعة الإخوان، وسميت تلك العملية التي أدت إلى سقوط البرامكة وزوال حكمهم “نكبة البرامكة”، ويصح بطبيعة الحال أن نسمي ما حدث لإخوان مصر نكبة الإخوان المسلمين، وهي نكبة جلبوها لأنفسهم عكس البرامكة، الذين كانوا صنيعة حاكم هو هارون الرشيد، تربى تحت إشراف كبير تلك الجماعة، ورضع حليب امرأة منهم، هي أم أخيه في الرضاعة، المعروف في التاريخ بجعفر البرمكي فجعله وزيره ومستشاره وأعطاه تفويضا بالتصرف في كل أمور الدولة نيابة عنه. ثم إن هذا الخليفة أغضبه فعلا من أفعالهم اختلفت في تفسيره وتحليله المصادر التاريخية، فبعضهم يعزوه إلى علاقة لجعفر البرمكي مع العباسة أخت الرشيد، وبعضهم يعزوه إلى جيش شعبي يؤسسونه بعيدا عن عيني الخليفة فاعتبره خيانة له، وبعضهم يشير إلى ما نشب من خلاف بين ابني الرشيد الأمين والمأمون والمنافسة على خلافة الأب، ودور البرامكة في إشعال هذا الخلاف، مما كان سببا في غضب الخليفة، وغيره من الأمور.
ولكن إخوان مصر وصلوا إلى الحكم، بفضل ما أتاحته لهم ثورة 25 يناير في مصر من حرية، وحصلوا على أغلبية مقاعد البرلمان، ووصلوا إلى فوز مرشحهم في الانتخابات الرئاسية، الذي انتقل من خطيب فوق منبر جامع بأحد أحياء القاهرة، إلى الخطابة فوق منابر العالم وعبر شاشاته، بحيث ينطبق عليهم المثل الذي يقول: أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته وكل من لا يسوس الملك يخلعه وما قالوه عن انقلاب عسكري أزاحهم من السلطة، لم يكن إلا نوعا من خداع النفس أولا، ثم تضليل الرأي العام ثانيا، لأن ما حصل كان ثورة أكبر من الثورة الأصل التي أزاحت الرئيس السابق حسني مبارك، واستطاعت حركة تمرد أن تأتي باثنين وعشرين مليون توقيع مقرونا بالرقم الوطني، للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة كتعبير عن خيبة أملهم في الرئيس مرسي (وهو رقم يعادل ضعف عدد الأصوات التي جلبت مرسي إلى الحكم) ثم أعقب تلك الحملة من التوقيعات، الدعوة إلى مظاهرات احتجاج، اتفقت مراصد العالم بأنها غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وصل تعداد المنخرطين فيها إلى ثلاثين مليون إنسان، فكيف بعد هذا يأتي من يقول أنه انقلاب، إلا إذا تمثلنا قول الشاعر الذي يستنكر سؤالا عن دليل يستدل به على ضوء النهار قائلا: وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ.
رد الفعل الإخواني على هذه الثورة كان حماقة وجنونا، أدّى إلى ارتكاب الجرائم، فكان رد الفعل المعاكس من السلطات الجديدة التي جاءت إلى الحكم بتوافق وطني، هو اعتبارهم جماعة إرهابية، وهو رد فعل اعترض عليه بعض المفكرين السياسيين المستقلين مثل الدكتور سعد الدين إبراهيم، ورأوه حكما قد يجلب مزيدا من المتاعب لأنه يدفع بالإخوان إلى منطقة اليأس حيث تأتي الأفعال بلا حساب، ويتحول العنف والإرهاب إلى لغة الحوار الوحيدة بين الإخوان وخصومهم، وآخر الأخبار هو أن مصر أبلغت بهذا القرار الأمين للجامعة العربية لتعميمه على الأقطار العربية، لكي تنأى بنفسها عن إخوان مصر، أو تقدم لهم الملجأ السياسي، أو تساعدهم في اتخاذ أقطارهم قاعدة للعمل ضد بلادهم.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة هو مدى انعكاس ما حصل للإخوان في مصر، على شركائهم في التنظيم في بلدان الربيع العربي، مثل تونس وليبيا واليمن، لأنه لا يمكن أن تمر هذه المعركة التي خسرها الإخوان في مصر، دون أن تترك أثرا على أقرانها في الأقطار الأخرى، وهناك عدة أسباب تحتم هذا التأثير، أولها أن تنظيم الإخوان المسلمين هو صناعة مصرية، تم تصديرها إلى الخارج، فأصل الإخوان في بقية الأقطار العربية والإسلامية هم فروع لتنظيم الإخوان المصري. وهكذا تشكل في ليبيا عن طريق إثنين هاربين من مصر في منتصف الخمسينات، كما أسلفت القول في مقال سابق، وهو ما حدث لغير هذا الفرع من فروع أخرى.
والأمر الثاني هو أن تنظيم الإخوان، قبل أن يكون تنظيما محليا يعمل تحت مظلة بلاده، ويقتصر عمله فوق أرضها وتحت سمائها، هو تنظيم دولي له قيادة دولية ويعقد اجتماعات دورية، وله مقر قيادة على المستوى الدولي، كما اتضح أخيرا في عاصمة الخلافة العثمانية السابقة، اسطنبول، ربما لما تمثله من معنى رمزي، ورغبة في إعادة إنتاج هذا النموذج.
وثالث العوامل أن هناك قواسم مشتركة جمعت بين بلدان الربيع العربي، التي عاشت جميعها ظروف ثورة عارمة تفجرت ضد الأنظمة الاستبدادية، ونجحت في الإطاحة بها، وقفز الإسلاميون يركبون موجة هذه الثورة، التي لم يكن لهم فضل تفجيرها ولا إنجاحها، واستطاعوا بسبب خبراتهم التنظيمية، وتجاربهم في العمل فوق الأرض وتحت الأرض، الهيمنة على المشهد السياسي، والدفع بعناصرهم إلى مواقع القيادة، والتسيد على الحراك السياسي بعد الثورة.
وهذا التشابه في الظروف والملابسات وربما في أساليب الخداع التي وصلوا بها، هي التي تحتم الإقرار بأن كشفهم وسقوطهم في مصر، سيعقبه كشف وسقوط لأقنعتهم في بقية الأقطار العربية، وبالتالي إزاحتهم عن مواقع القيادة والسلطة، وهو ما نراه يحدث بشكل تدريجي في تونس، وربما اختلف الأمر قليلا في ليبيا، لأن وصولهم إلى موقع متقدم في الحراك القيادي، لم يكن عن طريق صناديق الاقتراع كما في مصر وتونس، وإنما جاء سطوا بقوة السلاح، واعتمادا على الميليشيات المتطرفة والسلاح الذي يقع خارج القانون، وخارج سلطة الدولة، فهي سلطة بنيت على باطل وما بني على باطل فهو باطل ولابد من زواله قريبا، دون ريب.
( عن جريدة العرب الدولية )