عبد الستار العايدي

في خضم الصمت المؤقت للموقف الفرنسي تجاه ما يحدث في تونس لانشغال السلطة الجديدة بإعادة ترتيب أوراقها حسب الأوضاع الدولية بعد فوز الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بفترة رئاسية ثانية يطفو إلى السطح الموقف الأمريكي الرسمي بنبرة أكثر حدّة إثر تصريح للمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية حول قلق الولايات المتحدة بخصوص المسار الديمقراطي بعد إعادة هيكلة أحادية الجانب لهيئة الانتخابات من طرف قيس سعيّد ليعقب ذلك تصريح وزير الخارجية الأمريكي بأن ما يسعى سعيّد لإنجازه وحياده عن المسار الديمقراطي قد يكلّف تونس ثمنا باهظا، يوازي هذا الموقف الديبلوماسي الدولي موقف داخلي للاتحاد العام التونسي للشغل وبعض الأطراف السياسية التي تسعى هي كذلك لإيجاد طرح سياسي بديل لا يفضي إلى نفس نتائج قرارات قيس سعيّد، ليجد رئيس الدولة نفسه مجبرا على فتح ملف ديبلوماسي جديد كان قد تغافل عنه رغم أهميته، ملف العلاقات التونسية الروسية.

ما تم وصفه على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية بـ"القلق العميق" حول آخر القرارات الرئاسية التي أصدرها قيس سعيّد بخصوص المسار السياسي الذي يسعى لتأسيسه وتأكيد الولايات المتحدة في كل مرة على عدم تهديد استقلال المؤسّسات الديمقراطية الرئيسة وضمان عودة تونس إلى نظام الحكم الديمقراطي والدعوة لإطلاق عمليّة إصلاح سياسي واقتصادي شفّافة تشمل الجميع يشارك فيها المجتمع المدني والنقابات العمّالية والأحزاب السياسية وما أكده وزير الخارجية الأمريكي بأن إستمرار السلطة في تونس في مسارها الحالي سيقودها إلى خسارة كبيرة أولها تقليص الدعم المالي الأمريكي السنوي لها ليصل إلى ما يقارب النصف ومن الممكن أيضا أن يتم سحب ورقة الدعم اللوجيستي وضمانات الخزانة الأمريكية من الملف التونسي الموجود على طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وغيرهما من المؤسسات المالية الدولية إستنادا إلى أن تونس حاليا غير مؤهلة لا سياسيا ولا إقتصاديا للحصول على ذلك الدعم، كل ذلك هو في الأصل موقف ديبلوماسي أمريكي سابق قد تم الحسم في بنوده منذ فترة قصيرة بعد تاريخ 25 جويلية 2021 وظلّ طيّ الكتمان وقيد الموازنات التي ستطرحها الديبلوماسية التونسية والتوافق بين المطالب الأمريكية والرؤية السياسية لقيس سعيّد، وليس الإعلان عن ذلك في هذه الفترة السياسية والإقتصادية الحرجة لتونس إلا بعد تأكد الأوساط الرسمية الأمريكية من ضمانها لتوافق معظم الآراء داخل تونس، خاصة المنظمات النقابية ومنظمات المجتمع المدني وبعض الأطراف السياسية المتوافقة جزئيا مع تفاصيل المشهد السياسي الحالي، حول عدم وضوح مسار قيس سعيّد السياسي الذي لا تشير بوصلته إلا لرسم نظام يحكم كل تفاصيله شخص واحد.

ضغط ديبلوماسي خارجي بمعطى إقتصادي صريح يدعمه موقف داخلي شديد اللهجة يحذّر من "الهدوء الذي يسبق العاصفة" حسب ما أدلى به الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي خلال تصريح إعلامي في إشارة واضحة إلى أن شهر ماي والأشهر الذي تليه من الممكن أن تشهد تحرّكات نقابية إحتجاجية واسعة النطاق إنطلاقا من المطالب الاجتماعية والاقتصادية للشعب التونسي التي أصبحت ملحة في هذه الأزمة الحالية ليتم بعد ذلك الحسم في المعركة السياسية التي طال أمدها بين قيس سعيّد ومعارضيه، وفي ظلّ دوام غموض المسار السياسي الحالي والخطاب الرسمي المفعم بالألغاز وصراع السلطة الحالية مع التفاصيل الصغيرة سواء كانت أجور موظفي الدولة أو مسألة الاحتكار ونقص المواد الأساسية وغيرها يكشف الطبوبي عن المسار الجديد الذي يريد اتحاد الشغل رسمه بعيدا عن مشروع الحوار الوطني لقيس سعيّد الذي إعتبره "فاشل" وعن مشروع حكومة الانقاذ وجبهة الخلاص الوطني الذي يرفضه تماما معتبرا إياه كذلك مجرّد نسخة مستحدثة للمكونات الحزبية لما قبل 25 جويلية 2021 وفشل هذه النسخة معلن من تركيبتها وخياراتها، وحسب الطبوبي طرح المنظمة النقابية سيكون بتشكيل هيئة حكماء تتكون من ثلاثة أشخاص لها الحرية بأن تتصل بكل حزب على حدة وتستمع إلى كل طرف سياسي على حدة، أطراف سياسية ذات توجهات الليبرالية والقومية واليسارية، وستتولى هذه الهيئة المقترحة صياغة ميثاق وطني يضم عناوين رئيسية يتم عرضها على المتخصصين في القانون الدستوري أو الاقتصادي والبيئة والطاقة وغيرها لترجمتها إلى الواقع لمحاولة الخروج من الأزمة الداخلية ودعم المفاوضات التي تخوضها الحكومة الحالية مع صندوق النقد الدولي، إستنادا إلى ما أكده الطبوبي بأنّ "الحكومة الحالية لا يمكن أن تجابه المشاكل الاقتصادية العالقة دون حل الأزمة السياسية، حيث أنّ هناك أفكارا متباعدة بين تونس والجهات المالية المانحة".

في سياق هذه الضغوط السياسية المعلن عنها ومحاولات متعددة لمزيد سحب ساكن قصر قرطاج وحاشيته لصراعات جانبية لتشتيت الرؤى التي اتفقت سابقا على تجسيد ما يصبو إليه قيس سعيّد قد يقود الأخير إلى فتح باب المنافسة السياسية الدولية حول بقايا الدور الديبلوماسي الذي تلعبه تونس في منطقة شمال إفريقيا خاصة بعد الكشف عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الفترة المقبلة من شهر ماي إلى تونس ولقاء سيجمع سفير روسيا بتونس والطبوبي وسبق كل ذلك إعلان السفير التونسي في موسكو أن البعثة الدبلوماسية التونسية تعمل على تنظيم زيارة للرئيس التونسي قيس سعيّد لروسيا في أقرب وقت ممكن، نهج التقارب التونسي الروسي الجديد سواء كان على منوال ما يطرحه قيس سعيد أو المسار السياسي الجديد الذي سيرسم خطوطه إتحاد الشغل سيطرح فرضيات عديدة منها سقف المفاوضات الاقتصادية بين البلدين وماهية البديل الذي سيتم تقديمه عوض سحب أقدام الديبلوماسية التونسية من مستنقع العلاقات المتوترة حاليا مع الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة بخصوص ملف الديمقراطية وحقوق الانسان بالإضافة إلى إمكانية إدراج تحوير على الخريطة الجيوسياسية للمنطقة التي تحكم أغلب تفاصيلها أمريكا وفرنسا.

معطيات جديدة ستكشفها الفترة القادمة في ظلّ وحدة التمشي العام بين تونس والجزائر والتقارب الجزائري الروسي خاصة بعد تردد الموقف الديبلوماسي التونسي سابقا في خوض تجربة المشاركة في حالة الصراع الجيوستراتيجي بين أمريكا وفرنسا من جهة وروسيا ومن ورائها الصين من جهة أخرى حول المصالح الاقتصادية وإحدى البوابات المهمة لإفريقيا .