برهان هلّاك

أطلق السياسي والمحامي التونسي الشهير ورئيس الهيئة السياسية لـ "حركة أمل" في تونس، “أحمد نجيب الشابي”، مبادرة سياسية ترمي إلى تأسيس ما أطلق عليه تسمية "جبهة الخلاص الوطني". وتقترح هذه المبادرة تدابير وخطوات محددة في سبيل تحصيل تسوية للأزمة السياسية المتفاقمة في تونس منذ تاريخ الإعلان عن إقرار الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية الماضي. سيتم ذلك وفق نتائج مجهودات مبادرة جبهة الخلاص الوطني المذكورة، أي عن طريق " توحيد كل القوى السياسية التي تسعى لإنقاذ البلاد، عبر إجراء حوار وطني حقيقي يترتب عليه تشكيل حكومة تعمل وفق برنامج إنقاذ يتضمن إجراء وتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية، وصولاً إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة". ومن ثمة فسيتمّ إخراج البلاد من أزمتها المستفحلة والانسداد الذي يهدّد وجودها.  

ويقول أحمد نجيب الشابي في تصريح أدلى به لإندبندنت عربية معقّبا على إطلاق مبادرة جبهة الخلاص الوطني بالقول بأنّ "تونس تعيش محنة كبيرة اقتصادية واجتماعية، وتتطلب الإنقاذ"، معتبراً أن "قيس سعيد يكتفي بمهاجمة خصومه السياسيين وتقسيم التونسيين، بينما يزداد الوضع الاقتصادي والاجتماعي سوءً". ويضيف الشابي أن "قيس سعيد استغل تلك الأزمة من أجل مشروعه السياسي الخاص عوض الذهاب إلى حوار من أجل توافقات سياسية في إطار الدستور والديمقراطية". وصرّح أحمد نجيب الشابي بأنه بصدد التشاور مع أحزاب سياسية متعددة التوجهات من أجل تكوين هيئة تحضيرية وتأسيسية للجبهة التي ستقيم منتدى لحوار اقتصادي سيهدف إلى إنضاج مخطط إنقاذ وطني .وجبهة الخلاص الوطني ستكون حسب تأكيده منفتحة على كلّ من يريد الالتحاق بها من أحزاب وشخصيات وطنية ومنظمات. وباعتبار ما قاله من أن جبهة الخلاص الوطني سترحب بكل القوى التي "تعمل على إنقاذ تونس وإعادتها إلى سكة الديمقراطية"، فإن أبرز محاور اشتغال هذه الجبهة ستركز على وضع برنامج للخروج من الأزمة ووضع الاصلاحات السياسية التي يعتبرها كل المقبلون على تأييدها والانضمام إليها ضرورية.

إن في مرور الزمن، السياسي في هذه الحالة، وتعاقب الفترات المختلفة على البلاد التونسية ما يفسح المجال أمام الالتفات لتجارب ماضية ليست بالضرورة ناجحة ولا فعّالة؛ حتما تُذكِّرُ مساعي تأسيس جبهة الخلاص الوطني هذه بهيئة 18 أكتوبر الشهيرة بتونس، وهي إطار عمل سياسي شكلته في 24 ديسمبر 2005 عدة أحزاب وشخصيات تونسية معارضة لنظام الرئيس لزين العابدين بن علي. واستقت تلك الهيئة اسمها من تاريخ 18 أكتوبر 2005، تاريخ بداية إضراب جوع شنه ثمانية معارضين من تيارات سياسية مختلفة قبيل القمة العالمية حول مجتمع المعلومات التي نظمت في تونس في نفس السنة.

وعلى اعتبار أن الأستاذ أحمد نجيب الشابي هو أحد أولئك المضربين عن الطعام الثمانية، رفقة وجوه سياسية أخرى ممثلة لأطراف سياسية متنوعة من إسلاميين وعروبيين ويساريين، فإن اعتزامه تأسيس جبهة خلاص وطني دليل على احتمال اجترار نفس تلك التجربة التي يعلم الكل مآلاتها. وقد نشأت "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" عبر التقاء أحزاب سياسية وجمعيات مدنية تونسية ذات مشارب إيديولوجية مختلفة، تعتبر متناقضة، وعلى برنامج سياسي يعتبر رافدا من روافد التوافق السياسي في حدوده الدنيا. وهي بذلك قد كانت محطة امتزج فيها خليط فكري غير متجانس اعتبر محط الأنظار ومضرب الأمثال عن التوحد حول المطالبات بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولو كانت بعض هذه المطالب في أجندات بعض المكونات الإسلامية للهيئة غير ذات أهمية كبرى كما تكشّف لنا ذلك في ما لحق سنة 2011.

إن الأحزاب المعارضة لمضي الرئيس التونسي قيس سعيد في تثبيت أركان "مشروعه" قد فشلت في دفع الرئيس قيس سعيد إلى التراجع عن ما يمكن تسميته بـ "مشروعه السياسي" الخاص به، وإلى التسليم بضرورة فعالية تباحث وطني شاملة تدرس مع القوى السياسية والمدنية إمكان القطع مع حالة العطالة التي تسبب فيها الجميع، ولو بدرجات متفاوتة. أما عن درجة المسؤولية فهي فعلا متفاوتة، ولكن مثل هذا التفاوت لا يصب في مصلحة "القوى الديمقراطية" التي تعتزم تشكيل الجبهة، بل إن هذا التفاوت يرجح كفة اللوم نحو هذه القوى باعتبار مسؤوليتها عن حالة الانسداد التي دامت لفترة عشر سنوات بتمامها منذ الثورة في سنة 2011

وإن دعوة الأستاذ الشابي إلى تشكيل هذه الجبهة الخلاصية المعارضة بغية "تهيئة المناخ من أجل برنامج مشترك وصياغة أهداف واضحة لتعبئة الرأي العام، وفرض إصلاح الأوضاع قبل انهيارها" لهي تشي بسخرية قاتمة باعتبار أن الرافد الإسلامي المتمثل في حركة النهضة الإسلامية هي من أبرز المسؤولين لا عن الأزمة فقط، بل على صعود الشعبويات القاتلة التي تلت انتخابات سنة 2019. وإن الحديث عن "فرض قيس سعيد لدستور جديد قد يدخل البلاد في منعرج خطير" لن يفوق خطورة ما واظبت مكونات جبهة الخلاص الوطني التي كانت تعتلي سدة الحكم على تكريسه لعقد كامل من الزمن؛ لم يؤمن الإسلاميون آنذاك، أي عقب تمكّنهم واستتباب الأمر لهم، بفعاليات الحوار مع من وصموهم بـ "جرحى الانتخابات" والعلمانيين المكلومين والحقودين. وإن إقرار مؤسس هذه الجبهة بأن "المعارضة أضاعت كثيراً من الوقت أمام القضايا المطروحة لفرض معطيات سياسية بديلة" لهو تصريح مغالط، إذ أن من كانوا بالحكم بالأمس، وصاروا اليوم "جرحى التدابير الاستثنائية" في 25 جويلية 2021، هم من فوّتوا على البلاد والعباد قطع أشواط تاريخية في التأسيس الديمقراطي وتجذير العدالة الاجتماعية.

كانت حركة النهضة قد أشادت خلال الأيام الماضية بمبادرة الأستاذ أحمد نجيب الشابي، وأكّدت دعمها لـكل توجّه "يوحّد جهود التصدي للانقلاب ويقدّم بدائل وحلولاً لإخراج البلاد من أزماتها المتعددة". وتبنّى رئيس البرلمان المنحلّ، راشد الغنوشي، مبادرة الشابي التي اعتبر أنها ستسهم في الخروج بتونس من أزمتها المركّبة والمتراكمة. وتنضح هذه الإشادة وهذا المديح العالي ذكريات لمجريات الأحداث المتعلقة بهيئة 18 أكتوبر ومبادراتها النبيلة، في مستواها النظري على الأقل. كما تنضح كذلك بذكريات الخيانات والتخاذل والتفاوض تحت طاولة النظام آنذاك؛ لقد عمد الإسلاميون في تلك الفترة إلى زخرفة  تلك الكتلة التاريخية بشتّى المحسنات البلاغية والحقوقية والمدنية، بل وزايدوا حتى على الليبيراليين بالهيئة في كم الحقوق والحريات الهائل الذي نادوا به. لنكتشف بعد ذلك أن كل ذلك كان "مهارة" في رفع سقف المفاوضات مع النظام الذي لو ناولهم وزارة يتيمة في تلك الفترة لانقلبوا على أعقاب اتفاقاتهم مع "رفاقهم" بهيئة 18 أكتوبر.

وبالعودة على الزمن السياسي في تونس بوصفه ذا حلقات تكرارية، فإن النزعة الخلاصية التي يتسم بها إعلان قيام "جبهة الخلاص الوطني" ثقيلة على المزاج التونسي العام قبل النخبوي؛ ييأس التونسيون شيئا فشيئا من خلاص يأتي دفعة واحدة في ظل خوفهم على أبسط مقومات عيشهم اليومي وكناتج عملي لحقيقة أنهم جرّبوا هؤلاء المبشّرين بخلاص واسع النطاق ولم يجنُ غير الانهيار والحسرة. لا يعني هذا الكلام أن "أحمد نجيب الشابي"، أو غيره من الوجوه النضالية المعلومة في الحقيقة، شرّ مطلق كما يمكن للسلطة ومناصريها أن يصوّروهم هذه الأيام، ولكنّهم قطعا متسبّبون أوّلون في التكرار الجحيمي للحلقة الزمنية المتعلقة بالانهيار والتقهقر.