برهان هلّاك

يمسك الرئيس التونسي قيس سعيّد بزمام السلطة منذ ليلة 25 جويلية 2021. و قد تمّ تجميع صلاحيات السلطة التنفيذية بيد رئيس الجمهورية بعد عزله لرئيس الحكومة الذي كان الرأس الثاني، و الأهم حسب توزيع الصلاحيات، لهذه السلطة بتونس. و من ثمة فإن الرئيس قيس سعيد هو المسؤول الأوحد عن إدارة شؤون الحكم قاطبة، بما في ذلك إدارة الشأن الإقتصادي و المالي لبلاد يداهمها خطر الإفلاس و الإنهيار الإقتصادي منذ مدة ليست بالقصيرة، و تتعطل فيها الآلة الانتاجية و ترتفع فيها نسب التضخم لتهدّد قوت التونسيين فعليّا. و إن المتتبّع عن كثب لأهم ما بادر به الرئيس التونسي حتى الآن في هذين المجالين سيلاحظ هنات عديدة منها الإجرائي، خاصة فيما يتعلق بكسر حلقات الاحتكار و المضاربة بالأسعار و المطالبة الرئاسية بخفض الأسعار، و منها ما هو هيكلي خاصة في علاقة بمعالجة حقيقية لأزمة المديونية و الإلتفات لاستحقاقات خلاص هذه الديون في القريب العاجل.

هل تجدي الأوامر الرئاسية بخفض الأسعار نفعا؟

استقبل الرئيس التونسي قيس سعيد الأطراف الاجتماعية المشمولة بموضوع خفض الأسعار ( الأمين العام للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية و رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري بالأساس) يوم 26 جويلية 2021 و ذلك بهدف إقناعهم بخفض الأسعار، و هو ما استجابت له بعض الأطراف من قبيل الغرفة النقابية الوطنية للمساحات التجارية الكبرى التابعة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، حيث قامت بإدراج تخفيضات في أسعار عديد المواد الاستهلاكية الأساسية.

وقد أشاد العديد من التونسيين بهذه المبادرة، حيث تتآكل مقدرتهم الشرائية تحت تأثير التضخم الذي بلغ حوالي 6٪ خلال الاثني عشر شهرًا الماضية. كما يُعَدُّ ارتفاع أسعار المواد الغذائية أحد أبرز الاتهامات الموجهة لكافة أطياف الطبقة السياسية منذ ثورة 14 جانفي 2011، حيث فقد التونسيون 40 في المائة من قدرتهم على الإنفاق، و هو ما يعتبره قيس سعيد تنكيلا بالتونسيين في مأكلهم و مشربهم و ملبسهم.

و لكن يكمن التساؤل في هذا الصدد حول مدى نجاعة هذا الاجراء فيما يتعلق بديمومة انخفاض الأسعار. و يتمّ التغافل في هذه الفترة عن المسبّبات الحقيقية لارتفاع أثمان السلع، ليتم التركيز عن ناتج هذا الارتفاع من تآكل قدرة التونسي على الانفاق؛ يتطلب العمل على تنمية القدرة الشرائية للتونسي توجهات كبرى تتمثل في إعادة هيكلة جدية و عميقة لنظم الإنتاج الفلاحي وقنوات التوزيع بما يتماشى و دفع عمليات الإنتاج. كما يتطلب الأمر كذلك عناية بسلسلة التسعير، أي تقنين و عقلنة عمليات إضفاء الأثمان على المواد الأولية المستخدمة في الإنتاج) ترشيد أسعار بيع الوقود و المحروقات مثلا( و تنمية الإنتاج الوطني للأعلاف الحيوانية حتّى لا يضطرّ الفلاح التونسي، في في ظلّ استيرادها بأثمان مرتفعة و متذبذبة، إلى الترفيع في أثمان اللحوم و الدواجن.

كما يرتبط التضخم بعامل المضاربة و الانتهاكات التي يقترفها بعض الموزعين المتهمين بالتلاعب بمخزوناتهم وخلق نقص مصطنع لبعض المواد في السوق بغية الترفيع المشط في أثمانها. و حذر قيس سعيد من أن " طرق الجوع آخذة في الظهور وليست طرق التوزيع، و إن أولئك الذين يريدون إشعال النيران في البلاد عن طريق رفع الأسعار سيهلكون في حريقهم ". و لكن محاربة المضاربة لا تتم عبر المداهمات الأمنية و عمل الهيئات الرقابية و حسب، بل تتم بشكل أساسي بمراجعة أنظمة إسناد الرخص، باب الفساد الأول في تونس، و تثوير قطاع الإستثمار و الإنتاج بتخليص الراغبين  في الإستثمار من جحيم المعاملات الإدارية القاتلة و التي لن يكف عنهم أذاها إلا بتقديم " الهدايا " و " العطايا " للمسؤولين عن إسناد الموافقات و التصريحات.

و قد اشتدت عمليات المراقبة على مسالك التوزيع و التخزين، خاصة  على موزعي المنتجات المدعومة من الدولة والتي يشتريها بعض المضاربين بكثافة لإحداث نقص كخطوة أولى قبل إعادة إمداد السوق بأسعار أعلى. وقد تم خلال عمليات المراقبة و المداهمة ضبط ما يقارب من 3000 لتر من الزيت النباتي و 100 طن من السميد و 400 طن من الدقيق. و لكن المداهمات الأمنية للمخازن لا تعالج مشكل المضاربة و الاحتكار؛ فحسبما يشير إليه الصحفي أحمد النظيف، فإن التراكم الأولي للسلع و المتدخلين في حيازتها هو المشكل الحقيقي و ليس مؤسسات التخزين بما هي مسارات تعديلية للتحكم في كميات البضائع و مدى تشبع السوق بها، و بالتالي مستوى أثمانها على صعيد وطني. و بذلك تكون مطالبة الرئيس قيس سعيد بخفض الأثمان داخلة في باب نقاء النوايا غير القابلة للتطبيق على أرض الواقع.

أي توجهات لمعالجة أزمة المديونية الخانقة ؟

دعا الرئيس التونسي قيس سعيد البنوك لخفض أسعار الفائدة قائلا إن هذه التدابير مطلوبة للمساعدة في تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. و جدّد دعوته هذه في اجتماع مع رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية وعضوين بالجمعية داعيا إياهم للوقوف " في نفس الجبهة مع الشعب التونسي وذلك عبر الحط قدر الإمكان من نسب الفائدة المعمول بها". غير أن هذه الدعوة، على جديتها و أهميتها في التخفيف من حمل الفائدة المديرية على كاهل التونسيين، لا تتطرق لموضوع المديونية الداخلية للدولة التونسية و التي بلغت 25 % من قيمة المديونية العمومية لسنة 2020، و هي مديونية في شكل قروض يأتي أغلبها بفائدة مرتفعة نتاجا لتضرر الموازنات المالية العمومية و اضطرار بعض الحكومات السابقة للتداين الداخلي لتسديد الأجور، و هو مشكل فادح و خطير لا يزال يهدّد الدولة التونسية إلى حد اليوم

كما أكد الرئيس على نقطة دعم الأشقاء و الأصدقاء لتونس في مسار إصلاح العطب في موازناتها المالية المنهكة، و لكن مثل هذا التفاؤل الذي ينضح إشادة بحسن إدارة العلاقات الديبلوماسية العامة لتونس لا يعني أن أزمة المديونية الخارجية معطى يمكن تجاهله؛ بلغت المديونية الخارجية لتونس %75 من مجموع  المديونية العمومية. و يمثل الدين الخارجي %60 من مجموع الدين العمومي (مقابل 40  %دين داخلي) في سنة 2010،  ليبلغ نسبة %75 سنة 2020. كما أن الخطير في أمر المديونية الخارجية، و الذي يجب على رئاسة الجمهورية معالجته، أن هيكلة الديون الخارجية تتطابق و توزيع هذا الدين حسب مصدر العملة الخارجية؛ إذ يتمّ سداد 48 % من الدين الخارجي باليورو، و 28% بالدولار الأمريكي، و أما 11% من هذه الديون فيتمّ تسديدها باليان الياباني. و تمثل هذه العملات أعتى العملات العالمية في أسواق الصرف و المعاملات النقدية مما يمثل عناصر خطورة كبرى على استقرار نسب خدمة الدين.

و تشير المعطيات المنشورة إلى أن نسبة 93% من الدين الخارجي الذي تحصلت عليه الدولة سنة 2019، مثلا، قد تمّ صرفه لتسديد خدمة الدين الخارجي لنفس السنة. و هو ما يعني أن القائمين السابقين بأمر المالية في الدولة كانوا يدفعون للتداين لخلاص الديون، وهو ما يجب الكشف الدقيق عن ملابساته و تحميل المسؤولية القانونية و الأخلاقية لكل من اضطلع بمثل هذه السياسات المدمرة. و من باب أحرى أن يتم الكشف عن المآلات الأخرى للكم الهائل من القروض و الهبات و المساعدات، و تحديد مواطن سوء التصرف فيها و المؤدي إلى قيادة البلاد نحو الإفلاس. بالمحصلة، يتعيّن على الأوامر الرئاسية أن تشمل التحقيق و التدقيق في مدى قانونية التصرف في هذه الموارد المالية.

لا يخفى على أي طرف، سوى مناصر أو متردد في قبول التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021، أن الاشتغال الهيكلي و التشريعي على الوضع الاقتصادي هو من أوكد الأولويات. فلا يكفي أن يتم توجيه أوامر رئاسية بخفض الأسعار دون قطع دابر علّته فيما يتعلق بالمضاربة و الاحتكار و تعطل القدرة الانتاجية. كما لا يكفي التعويل على المساعدات و الهبات و القروض في تغطية العجز الفادح في الموازنات المالية للدولة التونسية، بل يجب الحرص على التصرف في هذه الموارد بما يتماشى و المبادئ الأساسية لاستغلال الديون و التي يجب أن تكون مشفوعة بدراسات تقييم جدوى، و ذلك لإثبات مردوديتها في استثمارات تخلق الثروة و تمكّن من تسديد خدمة الدين في آجالها المحددة.