برهان هلّاك

يمثّل يوم الثالث عشرة من شهر أوت عيدا وطنيا يحتفى خلالة بالمرأة في تونس. و رغم حقد صديقاتي النسويات على هكذا شكلانية جوفاء تعكس تسلطا ذكوريا حتى في تحديد زمان و كيفيات الإحتفاء بالمرأة، فإني أستمتع قليلا بالتذكير السنوي بعظمة النّسوة رغما عن الموتورين من الجانبين. و فيما يلي مشهدية منتقاة طبقا لمعايير ذاتية لا تخضع إلا لأهواء ذاكرتي و ما علق بها. و هذه المشاهد هي تعبير عن عرفان حقيقي بأثر الفراشة لنساء عظيمات مسّتني روعتهن

مشهد أوّل: روح جدتي وردة، الحرص على الشبع و حوشي اللفظ المحلّي

غادرتني وردة في يوم قائظ جدا، و اتجهت صوب آفاق أخرى أتمنى أن تجمعني بها في نهاية المطاف، فلست مهتما بالتواجد بقربها في فضاء ات دنيوية و حسب.

عجوز ثمانينية، لا تكاد تقرأ، و لكن بها نهم للمعرفة و الذكاء الحياتي عظيم. كنت أهوى الجلوس إليها هواية، و كنت أرطن بكلام صعب كانت تحبه رغم أن ليس لديها ما تعقّب به. كنت أقول أن ذلك جزاء ما تمطرني به من جميل حوشي اللفظ المحلي و وعره، والذي كانت تتقنه و كنت أحبه حبا جمّا. وردة نقيض للجوع؛  الجوع هو أكثر المواضيع إثارة للجدل في تاريخ الإنسانية، بين تجمعات بشرية بدائية تضورت جوعا فانفضت من حول جدران الكهوف لتصنع السلاح و تكتشف النّار و تزرع و تكتشف الكتابة. إلى تاريخ الثورات قديمها و حديثها و إعلاء الخبز محرارا للكرامة البشرية، إلى تاريخ العقلانية الأوروبية و الأمريكية المعاصرة حيث الجوع إلى المعنى الروحي و الخواء الذي يهدّد معنى أن نحيا و أن نحيا معا. أو جوعنا نحن القادمون من صحاري الأنبياء إلى دوائر إنتاج معنى خارج موروث الأسلاف الذي صار عسيرا على الهضم. إلّا أن الشبع، ليس بإعتباره نقيضا للجوع من حيث ملأ فراغ الأحشاء، فيه من اللذة المقدار العظيم عند الجلوس إلى موائدها: تصيبني إرتعاشة لذيذة عند أولى بوادر النّهل من صنوف عديدة على صحون مليئة غير عابئ بمآلات البواقي إثر عملية الهضم، و ذلك خداع للنفس عذب في ذكائه و احترامه لقدراتها العظيمة في الطهي

رحمك الله يا وريدة.

مشهد ثان: أسمى، الإلتزام بوجوب إعتناق اللذّات

إنّ اللّذّة هي بداية الحياة السعيدة و هي غايتها، و هي الخير الأوّل الموافق لطبيعتنا، و القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره و ما ينبغي تجنّبه ". هذا ما كنا نؤكد عليه أنا و أسمى ( أكتب إسمها كما تشتهي أن تراه هي) إذ نتلو فصول رسالة أبيقور إلى مينيسي في سكر جليّ؛ ثمّة شيء من الحجيّة في الزّعم بأنّ الإرتعاشة المنبثقة عن معانقة اللذة هي إنتفاضة حسية ضدّ إحدى أعتى المقولات التأسيسية للعقلانية و هي أنّ الإنتشاء يجب السيطرة على حدوثه و تواتر الظّفر به ( يا لخيية الأبيقوريين و شديد حزنهم على هكذا زعم مقيت، و هذا رأينا نحن الإثنين).

و أما عن إرتعاشات التبادل الكلامي خلال مسامراتنا، فلطالما كنا متفقين حول الإحترام الذي يكنّه كلانا للمساعي السيميولوجية الأنغلوسكسونية المعاصرة في تقريب الصّور لأذهان المتقبّلين؛ على سبيل المثال، هنالك دمج ذكيّ بين مفردات تتراوح بين الإنتماء إلى حقول إشتغال معرفية صرفة متعالية في سموّها النظري ( لفظ/مفهوم النشوةorgasm  تحديدا و حقول إنتاج و دراسة هذا المعنى بيولوجيا و نفسانيّا)، و بين ملفوظ التّدليل على النبيذ بما هو ممارسة يومية أو مناسباتية تنتمي إلى مجال فنّ المأكولات. يمتد إتفاقنا إلى خلق النبيذ، أي الصناعة التحويلية التي يستخرج فيها رحيق العنب بمهارة ملائكية في نبلها ... حينئذ يبزغ لفظ جميل هو ال  winegasmو معناه تلك الرعشة اللذيذة التي تخترق الأبدان عند الرّشفة الأولى من كأس زلال ( خاصة بعد طول فراق).

مشهد ثالث: نسرين، راقصة الباليه و المفردة الجميلة في الإيقاع التونسي

مصافحة أولى مع خطوات متناغمة مع إيقاع كوني خفي لا ندركه أو نعيه، لكننا طالما حدسناه حدسا حتى رأيناها ترقص، أو  بالأحرى تبصّرناها ترقص ... 

بالنسبة لي ، كانت النشوة الأولى التي لم تكن للسجائر أو ماء الروح علاقة بها أو دخل مباشر في صناعتها ... لقد أعلنت منذ أن أقبلت في مرمى عدسة المصوّر بإنتفاضتها على غياهب العدم أنها الحياة التي أصبحنا نمقت بفعل كل تعاساتها و رداءة معظم الفاعلين على مسرحها في هذه الربوع .. برقصها ذلك، و بكل تفصيلات فعلها، و تفصيلات ملامحها العذبة، كانت و ستظل صرخة رفض للقبح المستشري. أما بسمتها فهي تناغم و الجمال في إطلاقيته و كونيّته. و أما عن تصابيها، و هي الصغيرة فعلا، فقد ملأ علي الفضاء حتى لكأنها، بدلالها و سذاجتها اللذيذة و طبع المرح المتأصل في روحها، كائن بشّر بميلاده كل من ملّوا التشابه المرضي و مآسي القبح المعمّم    ...

إنسيابها يجعل من باطنها شفافا كقصيدة شاعر إنصرف إلى الإعتكاف ليدرك أن الوجود لم و لن يسعه، إنسجام الملامح الفيزيولوجية مع ذائقتها النفسية أمر يملك عليك وجدانك.

دُمتِ كما أنت : سيل لا نقف له على مستقرّ و إنسان أرقى لم يحلم نيتشه في أشدّ نوبات عصابيته بتجسّده على هذه الشاكلة !

مشهد رابع: حضور راضية النصراوي و غياب مية الجريبي، الثورة بذوق نسوي 

ينتمي زمن الثّورات إلى الزّمن السّرديّ "، هذا ما صدح به " بول ريكور " حينما إعتبر أنّ الشّعوب، لا الجماهير، حينما تثور فإنّما تسعى إلى سرد قصص العذابات في ضوء الشّمس و لهيب النّار فتمتزج الأوجاع بالأحلام و الأوهام. و تتبدّى لنا الثّورة مسار مكابدة و مجاهدة بغية الإستئناف و الإنطلاق في الزّمان و المكان، أو هكذا دأبت راضية و مية على الاعتقاد و الإيمان الجازم.

إلّا أنّ لحظة تكثيف السّرد تقتضي الخروج عن الزّمن البيروقراطيّ و الثّيوقراطيّ لإعادة بناء الإنسان و ذلك بهدف الإنجاز، و هنا مكمن الإشكال؛ امتزجت خيبات المرض بالنسبة لهاتين الرائعتين مع وقوع فعاليّة الإنجاز في حالة عطالة تامّة. و شهدتا إلتقاء الزّمن الثّوري باللّامتوقّع و إصابته بإنتكاسة عطّلت ديمومته و سيطرته و سيادته. و لكنّ ميّة الجريبي و راضية النصراوي رابضتا على تخوم الأمل، بما هو عمل على مسوّدة الإيمان بالمستقبل، و تركتا الرجاء، بما هو ثقافة دينية قوامها التواكل، لغير المؤمنين بالتثوير و قول لا

مشهد خامس: المتفلسفة نرجس البكوش، جدار صدّ أمام الفرد الوحش 

فضحت أستاذة الفلسفة بثانوية منطقة كندار من محافظة سوسة، نرجس البكوش، ما قام به مدير الثانوية من تحرش و اغتصاب لقاصرات هن تلميذات بنفس تلك الثانوية.

نرجس هي وجه آخر للعظمة الأنثوية التونسية و كونية روابط الأمومة و الحماية  و الصّون. قلبت نرجس الدنيا و لم تقعدها إيمانا منها بأن إستغلال نفوذ قانوني أو سلطة معنوية/إعتبارية لتلبية الرغبات الجنسية هو مؤشّر على تمثّل إيروسيّ مرضيّ للّعبة الجنسية. و يعود ذلك في الأغلب لإحساس دفين بالضآلة و إحتقار الذات معزّز بقدر مهمّ من التصوّرات المشوّهة للعلاقة مع موضوع الإنجذاب الجنسي تكون في حالات عديدة ناتجة عن مثال عائلي خاطئ عن هذه العلاقة . و ينمو هذا الانحراف بفعل علاقات التسلّط الجندري في مجتمعات لازالت بطرياركية تدور في فلك ما يصطلح عليه بالمركزيّة القضيبية.

تعي نرجس، و هي المشتغلة بالفلسفة، أن المتحرّش " المسؤول " في حالة مدير هذه الثانوية هو نتاج لفخر بمصادفة إمتلاك قضيب، و هي مصادفة بيولوجية من الغباء بمكان الإفتخار بها. كما تعي أن ما جرى هو نتيجة غير مباشرة لفساد الإيتيقا المهنيّة للبيروقراطية بهذا البلد ( بدليل اللجوء لإجراءات إدارية تأديبية في حق المنتفضين من ضحايا ممارساته، و في حقها هي بالذات إذ تم عزلها بعد الحادثة ) و هو دليل حاسم على أن الترسانة التشريعية غير ذات فعالية عندما يتعلّق الأمر بالمحاسبة بغاية الرّدع. و لذلك وجب الإحتجاج و التّشهير بالمتحرّشين.

»هل كتبتَ الروايةَ؟ 

حاولتُ... حاولت أن أستعيد

بها صورتي في مرايا النساء البعيدات.

لكنهن توغَّلْنَ في ليلهنّ الحصين.

وقلن: لنا عاَلَمٌ مستقلٌ عن النصّ.

لن يكتب الرجلُ المرأةَ اللغزَ والحُلْمَ.

لن تكتب المرأةُ الرجلَ الرمْزَ والنجمَ.» 

محمود درويش / قصيدة "طباق" (عن إدوارد سعيد)