عبد الستار العايدي
على نار هادئة يطبخ إحتقان الشارع التونسي منذ أشهر بسبب أزمة الوضع الاقتصادي وتفاصيله التي طالت كل الفئات الاجتماعية دون إستثناء، إحتقان تتخلّله إحتجاجات في بعض المناطق أو المدن بعد أحداث طارئة، كل ذلك أمام صمت الحكومة، حكومة الرئيس، التي لازالت تحتكم للسياسة الاتصالية التي فرضها قيس سعيّد منذ البداية وخوفها من كشف الغطاء عن حقيقة الأوضاع وحصر الأزمة العامة في جانب منها، مجابهة الاحتكار والفساد عموما، في حين أن الأزمة الحقيقية هي لا وجود لطريق واضح أو سياسة إقتصادية قد تفضي إلى المزاوجة بين شروط صندوق النقد الدولي ووضع الاقتصاد دون الإضرار بالمطالب الاجتماعية.
غلاء الأسعار وفقدانها من الأسواق، عدم القدرة على إستيرادها من الخارج بسبب التصنيف السيادي المنخفض جدا للإقتصاد التونسي، إنخفاض المساحات الزراعية بسبب الإهمال أو التوسع العمراني، إستهلاك المائدة المائية لأغراض غير زراعية والجفاف، مخططات تنموية جهوية 2023-2025 لم تستكمل بعد على ضوء أزمة مالية تعصف بميزانية الدولة وأخرى تم إنجازها ولازالت على الرفوف وغيرها من التفاصيل السلبية التي تمثل الصورة الرئيسية للسياسة الاقتصادية للبلاد ولازالت الحكومة ومن يقودها يضعون كل ما سبق حملا ثقيلا على ما يطلق عليه بالاقتصاد الموازي أو رجال الأعمال المحتكرين لمناطق النفوذ الحيوية للاقتصاد التونسي والفاسدين منهم الذي لهم إرتباطات بتوجهات سياسية دولية معيّنة أو تقارب مصالح مع الأحزاب السياسية في الداخل، رؤية سياسية تفتقد إلى الشمولية تصل إلى حدّ الانفصام بين تصريحات الوزراء الواقعية وموقف سياسي عام طوباوي، ففقدان الطريق نحو سياسة إقتصادية بعد الثورة لم تستطع البوصلة المتأرجحة لكل من تداول على السلطة إلى حدّ اليوم أن تجد السبيل للعودة مجددا لنفس الطريق.
شاب الهدوء الحذر العلاقة بين الحكومة والشريك الاجتماعي، الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد الصراع المحتدم والخلافات التي أفضت في الأخير إلى قبول الحكومة بالتغاضي عن الفصل 20 الذي يمنحها حق عدم التفاوض مع الاتحاد حول المطالب الاجتماعية، هذا الهدوء الذي أعقبه حالة عدم توافق بين الطرفين حول أي ملف من الملفات المطروحة خلال الجلسة التفاوضية التي انعقدت مؤخرا، ومنها مسألة الزيادة في الأجور، فالحكومة تقدّمت بمقترحين اثنين حول ملف الزيادة في الأجور لكنهما كانا متباعدين مع مقترحات اتحاد الشغل، الأخير يطالب بالترفيع في أجور أعوان القطاع العام والوظيفة العمومية لسنوات 2021 و2022 و2023 من أجل تعزيز المقدرة الشرائية للشغالين، لكن الحكومة اقترحت، خلال مفاوضات سابقة، زيادة يتم صرفها بعنوان سنوات 2023 و20242025 ، كما رفضت الحكومة مطلب الاتحاد المتعلق بإلغاء المساهمة التضامنية الظرفية بنسبة 1 بالمائة على المفروضة على الموظفين وسبب الرفض صعوبة الظرف الاقتصادي وعدم استرجاع الصناديق الاجتماعية لتوازناتها المالية، ورقة اللوم التي تريد الحكومة الإمساك بها ضدّ إتحاد الشغل قد سقطت بعد تصريحات قيادييه أن "ما زال للإتحاد الوقت للتفاوض وأنه سيواصل الحوار مع الحكومة للتوصل إلى اتفاق".
وإستنادا إلى الاستقلالية التي يتمتع بها، يتوقع بعض الخبراء في الاقتصاد أن يقدم البنك المركزي التونسي على ترفيع نسبة الفائدة المديرية، التي بلغت سبعة بالمائة لمجابهة نسبة التضخم المتسارعة نحو الأسوأ والتي وصلت 8.6 بالمائة وقد تتجاوز 9 بالمائة نهاية سنة 2022 حسب تكهنات المؤسسات المالية المانحة، فصمت البنك المركزي عن إصدار تقاريره الشهرية حول الوضع الاقتصادي يؤكد أن التضخم قد خرج عن السيطرة أو عن سيطرته خاصة، السياسة النقدية، وقد توجّب على الحكومة ضمن هذا أن ترسم سياسة مالية تشاركية. الترفيع مرة أخرى في النسبة المديرية قد تعود بالوبال المالي على المقترضين من البنوك خاصة القطاع الكبير من الشعب، الشغالين، مما سيخلق بؤرة أخرى تضاف إلى بؤر الأزمة الاقتصادية وفتيل آخر لحالة الاحتقان التي يعيشها الشعب، وهي مسألة تريد الحكومة الحالية أن تتفاداها خوفا من الوقوع تحت طائلة نفس الشروط التي طالب بها صندوق النقد الدولي والتي أكد على تنفيذها البنك المركزي، فإدارة البنك المركزي ترى أنه حتى لو تمّت الموافقة على إسناد قرض من صندوق النقد الدولي لتونس سيكون مجرّد حل وقتي دون وجود سياسة إقتصادية وإصلاحات جذرية، تضارب المواقف ولوائح اللوم المتناثرة بين الحكومة والبنك المركزي حول الوضع الاقتصادي والمالي كان وسيكون أحد أسباب تأزمه أكثر مستقبلا.
أكثر من إثني عشر ألف شخص قد هاجروا تونس بطريقة غير نظامية، بين من مات غرقا ومن نجح في الوصول إلى أوروبا، ولازالت حكومة الرئيس تبحث عن حلول ترقيعية كان شعارها "ليس لي ذنب وأن تونس كانت حطاما وأن اللوم يقع على كل الدولة وليس على النظام الحاكم اليوم"، شعار بائس مقتبس من فشل كل الحكومات السابقة وحتى بعض حكومات نظام بن علي قبل الثورة قد يقود إلى إشتعال الحراك الاجتماعي بشكل أكثر حدة مستقبلا ويكون سببا في خلق مطبات لا يمكن تجاوزها مثل المطبات السياسية التي نجح قيس سعيّد في دحضها لتعبيد الطريق أمام مشروعه السياسي.