أحد أهم البدائل المطروحة للنهوض بالاقتصاد الليبي وان كانت نتائجه ليست عاجلة أو آنية ولكنه هام جداً جداً ، وفي حال استقرار البلد والاهتمام بهذا النوع من الاقتصاد فمن الممكن أن يكون رافداً اخراً مهماً من روافد التنمية المحلية في ليبيا بل وفي كامل المنطقة ، وان كان يتطلب شيئاً من الامكانيات والبنية التحتية ، واظن اغلبكم لم يسمع به من قبل ألا وهو اقتصاد المعرفة.

اقتصاد المعرفة  Knowledge economy

لقد كان مسار تطوُّر المجتمع البشري دائماً مرتبطاً بتطوُّر معارف الإنسان ، فالمعرفة رافقت الإنسان منذ أن تفتَّح وعيه، وارتقت معه من مستوياتها البدائية مرافقة اتساع مداركه وتعمُّقها، إلى أن وصلت إلى ذراها الحالية، وبدون ادنى شك فان المعرفة ليست (ترفًا فكريًا) وليست غاية في حد ذاتها بل هي أهم عنصر من عناصر الإنتاج وأساس تقدم البشرية ، فهل تعلم بأن جميع الشركات العالمية الكبري (وبالاخص العابرة للقوميات ومتعددة الجنسيات) تقوم بتمويل برامج وخطط تعليم وتدريب العاملين لديها للرفع من مستوى كفاءتهم, وان جميع الشركات الناجحة في العالم تدير او تدعم مراكز البحث العلمي العالمية عبر تخصيص جزءاً من ميزانياتها لهذا الغرض ، والصين اليوم تحول اقتصادها العابر للحدود الى اقتصاد الابتكار لا اقتصاد التقليد بفضل الابحاث والمعرفة.

إن اقتصاد المعرفة هو فرع جديد من فروع العلوم الاقتصادية أنتشر مع نهاية القرن العشرين ،وقد ظهرت الفكرة واخذت في الانتشاربعد ان شهد قطاع الصناعة تطوُّراً على حساب قطاع الزراعة؛ ممّا أدّى إلى ظهور قطاعٍ اقتصاديّ جديد في الدول المتطورة ، وأُطلق عليه اسم مرحلة ما بعد الصناعة كنواة لنظام اقتصاد جديد ، فتمّ بناء القطاعات الاقتصاديّة الحديثة على فكرة المعرفة، والاتصالات، وكان الفضل لتكنولوجيا المعلومات والتي ساهمت بحدوث إنتشار وتطور كبير بالنشاط والفكر الإنسانيّ في كافة المجالات؛ إذ لم يبقَ كل من النفط والذهب يسيطران على الصناعة التقليديّة، بل أصبحت إمكانيّة إنتاج برامج معلوماتيّة إحدى أولويّات القطاعات الاقتصاديّة الحديثة ،ويقوم على مفهوم جديد أكثر عمقًا نظراً لأهمية دور المعرفة ورأس المال البشري في تطور الاقتصاد وتقدم المجتمعات، او بالأحرى انه نوع من أنواع الأنظمة الاقتصاديّة التي تعتمد الإنتاج والاستهلاك على استخدام رأس مال فكريّ تقلّ فيه الأهميّة المترتبة على تكاليف العمالة، كما أنه لا يستخدم المفاهيم التقليديّة للاقتصاد مثل النُدرة في الموارد، وغالباً يحصل اقتصاد المعرفة على حصة كبيرة ضمن النشاطات الاقتصاديّة الخاصة بالدول ذات النموّ الاقتصاديّ المتقدم.

ويُعرف البنك الدولي اقتصاد المعرفة بأنه ذلك النوع من الاقتصاد الذي يحقق استخداماً فعالاً للمعرفة من اجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ‏(اي التنمية المكانية والبشرية للمجتمع ككل)، ونستخلص من التعريف السابق أنه صار من الضرورة جلب وتطبيق المعارف الاجنبية من خارج حدود البلد وفي عالم يتسم بالسرعه والتطور في التكنولوجيا كل يوم,‏ وهذا يتم بالتوازي مع تكييف وتكوين المعرفة من أجل تلبيه احتياجات المجتمع الخاص وهذا هو هدف التنمية .

وتنبع أهمية اقتصاد المعرفة من كون أن المعرفة هي الأساس المستخدم لإنتاج وزيادة الثروة ، كما أنها تساهم في زيادة الإنتاجيّة وتحسين الأداء وتساعد على تقليل تكاليف الإنتاج مع الحرص على تطوير نوعيته عن طريق استخدام الأساليب المتقدّمة والوسائل التقنيّة الخاصة باقتصاد المعرفة أي أنها أحدثت تغيير في هيكليّة الاقتصاد ، وبالتالي ستساعد المعرفة على دعم الدخل القوميّ من خلال إنشاء المشاريع المتنوعه (الصغيرة والمتوسطة) وتتابع عوائدها الماليّة المباشرة أو غير المباشرة بالاضافة الى ظهور منتج جديد وهو الصادرات الخاصة بالمنتجات المعرفيّة ، وبذلك تكون المعرفة قد ساهمت في توفير فرص عمل مع تنوعها ضمن المجالات المهنيّة التي تستخدم تقنيات تكنولوجيّة متقدمة ، وتشارك المعرفة أيضاً في تحديث وتطوير النشاطات الاقتصاديّة ممّا يؤدي إلى استمراريّة تطور الاقتصاد بشكل سريع ، و تعمل المعرفة على توفير الأُسس الضروريّة لدعم التوسُّع في الاستثمار وخصوصاً بمجالات المعرفة العمليّة والعلميّة ممّا يؤدي إلى بناء رأس مال معرفي لتوليد إنتاج المعرفة وبالتالي فهي تُقلّل من استخدام الموارد الطبيعيّة ويؤدي ذلك إلى ضمان استمرار تطور النشاطات الاقتصاديّة ونموّها دون التأثر بمحددات تحدّ من ذلك مثل النُدرة ؛ إذ تؤدي إلى زيادة الاهتمام بالإنتاج المعرفيّ المباشر وغير المباشر.

وبإلقاء نظرة سريعة على التحوُّلات الكبرى في حياة المجتمع البشري والتي كانت إنعكاساً لمدى التطوُّر الذي بلغته المعرفة في كل مرحلة من تلك المراحل ، فقد تمثّل التحوُّل الأوَّل والبالغ الأهمية في حياة البشرفي قيام الزراعة المستقرة التي نشأت في أحواض الأنهار الكبرى، كالنيل ودجلة والفرات في العصور القديمة وما تلاها من صراعات دموية للسيطرة عليها، وفي نهاية المطاف أدت الى ظهور الأشكال الأولى للدولة والسلطة والحكم والشرائع والقوانين، وأدَّى قيام تجمعات سكانية كبيرة نسبيًا إلى بروز تنظيم إداري وسياسي ملائم لمستوى تطور المجتمع البشري في تلك المرحلة ، أما التحوُّل الثاني فتمثَّل بقيام الثورة الصناعية إبتداءًا من النصف الثاني من القرن الثامن عشر في إنكلترا، ومن ثم انتشارها على امتداد القرن التاسع عشر في أوروبا الشمالية والغربية وشمال القارة الأميركية واليابان،  وتُعدُّ الثورة الصناعية هذه هي بداية تقدُّم عظيم في البلدان التي تحقَّقت فيها، وقد شمل هذا التقدم فروع النشاط الاقتصادي كافة (الصناعة والزراعة والنقل والاتصالات والتجارة والمصارف...)، وكان من سمات المعرفة في هذه المرحلة أنها كانت تستند إلى التطبيق في المقام الاول ، أي أن التطبيق كان يسبق النظرية، حيث صيغت نظريات كثيرة على أساس ابتكارات وتطبيقات كان يتوصَّل إليها المبتكرون والمخترعون في الممارسة العملية أولاً، كما أدت إلى انقسام العالم إلى عالمين: أحدهما صناعي متطوِّر، وآخر غير صناعي يلهث بعضه للحاق بالعالم الصناعي المتطوِّر من غير جدوى في غالب الأحيان، فيما البعض الآخر يعيش في تخلُّف وفقر مدقع من دون أمل في النهوض (عالم ثالث) وبذلك تعتبر الثورة الصناعية بداية لتأريخ جديد بين عصرين: العصر ما قبل الصناعي والعصر الصناعي أو ماتعرف بالثورة الصناعية الثانية ، واما التحول الثالث فتمثل في اكتشاف الكهرباء وظهور الكمبيوتر وبداية ثورة الاتصالات في القرن العشرين ، ويُعد هذا التحول هو التحول الثالث بعد ظهور الزراعة والصناعة كأول اقتصاد عرفه الانسان ، وفي هذه المرحلة فإن السمة الرئيسة هي في أن التطبيقات العملية صارت تأتي استناداً إلى النظرية بعكس المرحلة السابقة، وصارت النظرية تسبق التطبيق ، وتسارعت بصورة هائلة عملية الاكتشافات والنظريات ،  فقصرت المسافة الزمنية بين الاكتشاف النظري ووضعه في موضع التطبيق وهي ماتعرف بالثورة الصناعية الثالثة , ومع انطلاقها تغيرت المفاهيم الاقتصادية وصعدت اقتصادات وانهارت اخرى ، وكنتيجة حتمية لهذه الثورة فقد تبلورت ثم نضجت فكرة اقتصاد المعرفة ، والجدير بالذكر انه مع هذا التطور الهائل لنظم المعلومات (ثورة المعلومات التي انطلقت مع مطلع العقد الاخير للقرن العشرين) تحولت تكنولوجيا المعلومات إلى أهم جوانب تطور الاقتصاد العالمي وهي السمة الرئيسة للثورة الصناعية الرابعة والتي بدورها انطلقت مطلع هذا القرن ، في زمن اتسم بالسرعه والتغير ، ومعها تطورت وكبرت فكرة اقتصاد المعرفة والذي شمل ثورة العلوم والتقانة فائقة التطور في المجالات الإلكترونية والنووية والفيزيائية والبيولوجية والفضائية....الخ.

 

بعكس العوامل الاساسية للانتاج في الثورتين الصناعيتين الثانية والثالثة والتي تتكون من كلٌّ من رأس المال، والعمل، والأرض ، فإن الإبداع، والمعلومات، والذكاء، والمعرفة التقنية هي أحد المكونات الأساسيّة للإنتاج في اقتصاد المعرفة بل وفي الثورة الصناعية الرابعة ، ووفقاً لتقديرات هيئة الأمم المتحدة فإنّ اقتصاد المعرفة يسيطر على 7% من الناتج الإجماليّ المحليّ في العالم، ويشهد هذا الاقتصاد نموّاً سنويّاً بمعدّل يتراوح بين 10% - 50% تقريباً من الناتج الإجماليّ للدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبيّ بسبب اهتمام هذه الدول باستخدام الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سيساة البوابة