مصطفى حفيظ

بينما تبحث الفلسفة اليوم في المجتمعات المتقدمة كيفية انقاذ البيئة من بطش الانسان الحديث وتقنيته المرعبة التي تهدد الكوكب والبشرية، تزداد مجتمعاتنا كرها للفلسفة لدرجة تحريمها واعتبارها خطرا يهدد علاقة العبد بربه، إذن بينما يتجه السؤال الفلسفي في أوروبا والغرب عموما نحو مزيد من التعمق في فلسفة البيئة، وظهور ما بات يُعرف بـ "الإيكوصوفيا"، تبرز ظاهرة "فوبيا الفلسفة" عندنا لتؤكد مدى كره مجتمعاتنا للفلسفة والعقلانية، وحتى محاربتها والدعوة إلى عدم تدريسها تحت مبرر تعارضها مع الدين.

طبعا تمظهرات هذا الكره الشديد للفلسفة واضحة عندنا، حتى داخل أسوار الجامعة تجد أولئك الذي يبيّتون حقدهم على تدريس الفلسفة ويكاد بعضهم يُطالب بغلق قسم الفلسفة في جامعة ما، لا لشيء إلا لأنّه متشبّع بهذه الفوبيا التي ربما فُطر عليها بخطاب شعبوي لاهوتي منذ صغره، لأنّه لا يوجد مبرر آخر خارج هذه الحقيقة، ويمكن تأكيد وجود ظاهرة "فوبيا الفلسفة" في الجامعة بنظرة خاطفة حول عدد الطلبة الذين يختارونها كتخصص دراسي بعد سنة واحدة من دراستهم في الجذع المشترك علوم اجتماعية وإنسانية، نفهم أين الخلل، فالمشكلة هي في الذهنية المركبة التي جبلوا بها، سواء من الأسرة، أو المسجد، أو المدرسة، وحتى عبر وسائل الاعلام والانترنت، يتم تصوير الفلسفة على أنها "كفر" وطريق للإلحاد، وأنها تبعدك عن الدين، لذلك تجد تلميذ في مرحلة الثانوية يقول لك إنّه يخشى دراسة الفلسفة لكونها تتعارض مع الدين، ومن هذا المنطلق، يمكننا فهم من أين جاءت فكرة "شيطنة" الفلسفة وكل من له علاقة بها، فعندنا، بمجرد أنك تفكر بعقلانية وتحاول النقاش مع أحدهم بخطاب عقلاني بعيد عن اللاهوتية المغيّبة للعقل، سيتم اتهامك بالزندقة ومحاولة التشكيك في قدسية النصّ الديني، وطبعا يأتي اتهام الفلسفة في المقام الأول، إذن، ما جدوى الحديث عن فلسفة البيئة أو ما يُعرف بـ "الإيكوصوفيا" إن كان مستوى التفكير عندنا لم يتقبل بعد كلمة "فلسفة" بمعناها اللغوي الاغريقي "محبة الحكمة"؟

في المجتمعات التي يغيب فيها الفكر العقلاني وتسيطر فيها اللاهوتية واللاعقلانية والتفسير الغيبي للظواهر والحوادث والكوارث والأمراض، مثلما حدث عند ظهور فيروس كورونا، عندما ذهب اللاهوتيون الأصوليون لوصفه بـ "جند من جنود الله أرسله الله ليعاقب به العصاة من عباده"، لا يُنظر للمشكلة البيئية (الايكولوجية) التي يواجهها الكوكب الذي نعيش فيه على أنها خطر حقيقي يمكنه تهديد الحياة على الأرض، بل بالعكس، يعزو اللاعقلانيون اللاهوتيون مسألة تغيّر المناخ وارتفاع درجة الحرارة إلى ذنوب البشر وبعدهم عن الدين، لذلك نجد رجال الدين في خطب المساجد يجدون دوما مبررات دينية لمشاكل البيئة، ويعزونها للشرور الإنساني الغربي وبعد المسلمين عن تأدية واجباتهم الدينية والتمسك بالعلم الشرعي، أما فكرة "محبة البيئة" أو الإيكوصوفيا، فهي مسألة تكاد لا تُطرح في مجتمعاتنا، اللهم إلا في بعض أقسام الفلسفة عندنا من باب محاولة البحث في الموضوع وفهم ما استجد من بحث فلسفي هناك في الغرب، حيث تُواكب الفلسفة التطورات التي تشهدها البشرية، وتُحاول فهمها، كما أنّ الفلسفة هناك في الغرب موجودة في المؤسسة الاقتصادية والعلمية والبحثية والبيئية وحتى السياسية، أما هنا، فتم اختزاله إلى أستاذ في الجامعة بالكاد يُقدّم درسه لطلابه وينتظر راتبه الشهري، أما تشجيع الحكومة للبحث الفلسفي كإنشاء مخبر وطني للفلسفة، أو هيئة أكاديمية بحثية تهتم بالفلسفة والبحث والتطوير والتنمية، فهذا خارج اهتمامات الحكومة الحالية، ولم يكن يوما محل اهتمام السياسيين في الجزائر.

 عندما قلنا بأنالفلسفة اليوم في المجتمعات المتقدمة تبحث كيفية انقاذ البيئة من بطش الانسان الحديث وتقنيته المرعبة التي تهدد الكوكب والبشرية، كان المقصد أنّ الغرب، وهو مهد الفلسفة المعاصرة، يوظّف الفلسفة في كل شيء، حتى في المؤسسات الاقتصادية والتنموية، ونجد تعليم الفلسفة حتى للأطفال، لذلك، لا عجب أن يهتم البحث الفلسفي بالبيئة ويفكر كيف ينقذ الكوكب من الاحتباس الحراري، تساءل الفيلسوف والمحلل النفسي الفرنسي فيلكس غوتاري عن كيف يمكن للعالم أن يكون صالحاً للسكن والسماء توشك على الانفجار فوق رؤوسنا؟ كان غوتاري في كتابه "الايكولوجيات الثلاث" قد تناول انشغال الإنسانية بمسألة مستقبل الأرض، واستعمل مصطلح "الإيكوصوفيا" والذي نحته الفيلسوف النرويجي آرني ناييس، ويُقصد به فلسفة البيئة، وهي فلسفة التناغم أو التوازن البيئي. ولا نحتاج هنا للتعمّق في المسألة، كل ما يهمنا هو التوضيح بأنّه في الوقت الذي يتطور العالم نحو مزيد من الاهتمام الإنساني بالبيئة ومساهمة البحث الفلسفي في ذلك، تزداد مجتمعاتنا تراجعا ومحاربة للعقلانية والتفكير الفلسفي، حتى أن وسائل الاعلام المرئي خاصة، باتت تفضّل التعاون مع رجال الدين والمشايخ الذي يستقبلونهم على بلاتوهات التلفزيونات ويسندون لهم مسائل تفسير الأمور الحياتية من منظور لاهوتي أحيانا بعيد عن المنطق، بالمقابل يزداد تهميش الفلسفة والفلاسفة، إلى درجة لا ترى أي أستاذ أو باحث فلسفي أو مفكر يظهر عبر هذه التلفزيونات لمناقشة مواضيع فكرية يمكنها أن تساهم في بعث نفس جديد في مجال الفكر والثقافة، لكن الواقع يؤكد أن هؤلاء بالكاد يخرجون من أسوار الجامعية. ثمّ إنّ هناك توجّه جديد في الشرق الأوسط، في بعض الدول العربية، وهو مشروع لتدريس الفلسفة للأطفال، والأكيد أن مشروعا كهذا لو تمّ تطبيقه على أرض الواقع، سيساهم دون شك في نشر الفكر العقلاني عند الأجيال القادمة، في انتظار أن يتبنى السياسيون عندنا مثل هذا المشروع.