برهان هلّاك

تناقلت صفحات بعض الأصدقاء على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ما يبدو أنّه نص حوار متخيّل بين فتاتين هنّ تلميذتان بإحدى الجغرافيات القصية و الوعرة بتونس. و جاء النص باللغة المحلية التونسية، و للأسف فإننا لم نستطع تتبّع كاتبه و ناشره الأصلي، و لذلك وجب التنويه بعدم ملكية هذا النص الذي سننقله إلى العربية الفصحى حتى نقف على بعض أوجه مأساة المنظومة التعليمية في تونس و نكبات أحد أهم أضلع العملية التعلّمية في تونس، أي التلاميذ الذين يجدون أنفسهم محاصرين ببنية تحتية تربوية مهترئة تهدد سلامتهم الجسدية. و بنى فوقية فكرية خاضعة للسياسي و البراغماتي في أتعس تجلياته و تفسد إمكان أي تحصيل معرفي يليق بممكن وعي نقدي بصدد التشكّل عند الناشئة.

 " 
ـ أمل: أسرعي قليلا، صابرين، لم يعد هنالك متسع من الوقت، سنتأخّر!

ـ صابرين: ها أنذا أسرع، لقد علق حذائي في الوحل 

ـ أمل: حذاري ألّا تقعِ و تمرّغِ ثيابك في الأوحال

ـ صابرين: ها أنا حذرة، طوبى لذلك الفتى، كم أغبطه

ـ أمل: أي فتى هذا بالله عليك، هل جننتِ؟! نحن نغرق في الوحل و أنت تحدثينني عن الفتيان! نحن ذاهبتان للدراسة، فقط لا غير

ـ صابرين: ليس ذلك قصدي، فنحن لسنا أهلا لذلك! لقد أضحكتني و ما أنا براغبة في الضحك إذ تكاد أصابعي تتجمّد من شدة البرد

ـ أمل: ما الأمر إذن؟

ـ صابرين: عنيت ذلك الفتى الذي يمتطي الحمار. يبدو مرتاحا و حذاؤه نظيف. سيدخل قاعة الدرس و كل تركيزه مع المعلّم، بينما يصب نصف تركيزنا على المعلّم و النصف الآخر على أيدينا و أحذيتنا ننظّفها مخاتلة، بينما ترتعش أصابعنا و تزرقّ من شدة البرد

ـ أمل: لا تذكريني بالله عليك! أرجو من الله ألّا يفيض الواد كما دأبه كل شتاء حين يدمّر نصف المدرسة ...

ـ صابرين: أنا لا أريد للواد أن يختطفني، أرجو من الله الوصول إلى المعهد قبل ذلك. هيا بنا نسرع جريا لعلّنا نصل قبل ميعاد الدّرس فنشعل نارا وراء سور المعهد نتدفّأ بلهيبها

ـ أمل: لقد علق حذائي

ـ صابرين: هلّا حثثت الخطى قليلا، أنت تمشين و كأنّك تدوسين الرّخام

ـ أمل: أنّى لك أن تعرفِ الرّخام، ليس بكامل المدرسة قطعة رخام واحدة

ـ صابرين: لقد رأيته بأرضية مكتب السيّد المدير ... "
 
 
و يصوّر كاتب هذا الحوار المتخيل آلام الذهاب إلى مقاعد الدراسة في  بعض المناطق الريفية القصية بتونس، و اهتراء منظومة الإحاطة بالتلاميذ بدءً بنقلهم و إيصالهم إلى مدارسهم و معاهدهم التي لا تقيهم مضار الجهل أو الظروف المناخية؛ تعرّض عدد من تلاميذ المدرسة الابتدائية الحبيب بورقيبة بمدينة الكرم الشرقي التونسية إلى جروح بعد سقوط سقف إحدى قاعات الدّرس . و هو ما أثار الهلع في صفوف إطار التدريس و  التلاميذ الذين أصيب ثلاثة منهم بجروح متفاوتة الخطورة جسديا و ندوب نفسية هائلة إذ يخشون منذ ذلك الحين الاقتراب من المدرسة و لا يعبؤون بتنظيرات السذّج السخيفة و نصائحهم بتحمل مرارة التعلّم برهة بدلا عن تجرّع مرارة الجهل دهرا.
 
و لا يقتصر إهتراء البنية التحتية على قاعات الدرس و حسب، بل يتجاوزها إلى مطابخ المطاعم  و المشارب المدرسية حيث يتناول الأطفال بعض الوجبات الباهتة خلال مواقيت الوجبات التي تقدم لهم في هذه المطاعم؛ إذ أُصيب 12 تلميذا بالمدرسة الإعدادية بمنطقة القلعة الصغرى من محافظة سوسة بتسمّم غذائي استلزم نقلهم إلى المشفى لتلقي الإسعافات اللازمة.
 
و يعاني التلاميذ التونسيون في مناطق عدة من البلاد من تفاقم رداءة الخدمات التعليمية العمومية المقدّمة من قبل الدولة، و صارت المؤسسات التربوية بمثابة كمائن تهدّد سلامة التلاميذ و معلّميهم، و صار الهروب نحو الشارع و الفضاءات المضادة للانضباط المدرسي نزوعا للاحتماء بهذه الأماكن من خطر الموت أو المرض أو الإعتداء بالفضاء المدرسيّ.
 
و لا يقتصر التهديد الذي تنطوي عليه المؤسسات التعليمية في تونس على تهديد السلامة الجسدية و حسب، بل صار تهديدا رمزيا و انتهاكا لحق الناشئة في تكوين متين و تحصيل معرفي صلب يؤهلهم لمتطلبات العمل و للاضطلاع بدور مجتمعي فعّال مستقبلا. و لم يعد للمدرسة التونسية أي دور، أو اهتمام على ما يبدو، بتكوين ما يسمّيه فيلسوف التعليم البرازيلي، باولو فريري، بالوعي النقدي عن طريق صياغة بيداغوجيات نقدية و إقامة علاقة ديمقراطية بين المعلم والطلاب باعتبارها السبيل إلى أن تأخذ عملية الوعي النقدي مجراها. كما أن إطار التدريس يجنح عن إقامة تبادلية مع الطلاب في مناخ ديمقراطي يبيح للجميع التعلم من بعضهم البعض، ليصير نموذج التفاعل بين المعلّم و التلميذ التونسي نموذجا " بنكيا " بلغة فريري؛ يفسّر الفيلسوف البرازيلي كيف أن المعلم الذي ينوي أن يُحلّ نفسه في موقع سلطة أعلى من طلابه، والذي لا يعترف بطبيعته القابلة للخطأ والجهل، يضع نفسه في مآزق ويصبح متصلبًا، حيث يتظاهر بالمعرفة بينما يختزل الطلاب في جهلهم. فالتصلّب الناجم عن هذا النوع من ديناميات السلطة يلغي التعليم كعملية بحث واكتساب للمعرفة، وحينما يعيّن المعلّم التونسي نفسه مالكا أوحدا للمعرفة و الحقيقة فإنه سيعتبر التلاميذ بالضرورة أوعية فارغة عليه ملؤها بالمعرفة، و هذا هو جوهر " النموذج البنكي" في التعليم. إن هذا النموذج المسيطر على كيفيات اشتغال المدرسة التونسية لهُوَ وسيلة عنيفة في معاملة الطلاب كونهم كائنات بشرية لديها نوازعها و تمثلاتها و مناهجها الفكرية، إذ يشيّءُ التلاميذ و لا  يعاملهم على أسس النديّة الإنسانية.
 
و في المقابل، يكون لوالدي التلميذ التونسي دور في انحطاط هذه المؤسسة المعرفية. و يحضر بالبال مشهد مريع لحادث جرى في السنوات الماضية تم في إطاره الاعتداء على مدرّسة تونسية في سبتمبر من سنة 2017 كان قد اتّهمها الأهالي بالقيام " بممارسات شيطانية " و " الترويج لمقولات إلحادية " في مشهدية مرعبة تجمّع خلالها الأهالي و توجهوا " لتأديب " هذه المعلّمة؛ لقد كان جمعا تمكّن من كسر خطية الزمن عائدا ممتطيا قرونا من الظلامية و متسلحا بكره عميق للإختلاف و متهجما على إحدى منارات العلم المتهالكة بالبلاد، و التي توشك على التهاوي كمنارة الإسكندرية القديمة. و يسترجع  المرء في الحال صورا قدّتها المخيلة عند قراءة حكايا القرون الوسطى من مطاردة " المهرطقين " المسيحيين و " الصوفيين " و " علماء الكلام " و التنكيل بهم. و بذلك يكون ما غرسه أولياء أمور التلاميذ في أبنائهم من عنف و دوغمائية و همجية و غلظة و جهل مركّب يفوق قدرة أي مدرّس أو مدرسة على تهديمه و محوه، و ذلك ما يمنع إنشاء عقل سوي نقدي و منفتح.
 
و يقتصر دور المؤسسة التعليمية التونسية اليوم على توفير أسباب الفشل الدراسي و الانحرافات السلوكية و المتهورة. و ينفض الطفل، و الشاب، التونسي من حول هذه المدرسة مرفّعا من نسب الإنقطاع عن الدراسة التي تبلغ في تونس 100 ألف حالة انقطاع مبكّر ( قبل سنّ 16 سنة القانونية )، و لتبلغ أكثر من مليون منقطع خلال العِقد الأخير من سنة 2010 إلى سنة 2020 حسب حسابات أُجرِيَت على ضوء إحصائيات وزارة التربية التونسية التي تقدّر إنقطاعا عن الدراسة سنوي   يشمل مائة ألف تلميذ.
  
تتداخل عديد الأطراف في الانهيار المتواصل للمنظومة التعليمية في تونس، بدءً من دولة تخلت عن مسؤوليتها في الارتقاء بالتعليم الذي هو مسألة أمن قومي و حيوي فيما يتعلق بإستمرار الأمة و ازدهارها، وصولا إلى الفساد السلوكي لأهالي التلاميذ و تعنّت و إخلالات بعد المضطلعين بمهام تدريسيّة. و يكون ناتج ذلك واحدا، مرارة جهل و نزوع للغلظة و تأثيم للتشبث بالتحصيل العلمي حتى صار التوجه نحو المدارس صباحا يوسم بالسذاجة و العمل السيزيفي الذي لا طائل من وراءه.