بنظرة متفائلة في ماهية علاقات شمال المتوسط بجنوبه، ووفق حسن النوايا والتعايش السلمي، وإبعاد نظريات المؤامرة، نضع وصفاً نقياً لتلك العلاقات بين الطرفين، فعندما نتحدث عن المصير الراهن والمستقبل القادم، يتوجب وضع اليات لحلحلة الصراعات والتنافسات والتعثرات المتزايدة (غير العسكرية)، بل ترتيبات ما بعد مرحلة التحضير، كي نصنع أمل ممنهج للسير في مراحل واضحة المعالم وتحديد الأهداف والإنتقال السلمي، فمصلحة الأمة توجب دراسة الحاضر بتمعن والعطف علي تجارب الماضي لاستشراف المستقبل، وقد وضعت العديد من النظريات الكمية والكيفية لرؤية أكثر دقة وحرصاً.


يحتاج عالمنا العربي والأفريقي اليوم أكثر من ذي قبل تحقيق توازنات عديدة، ومنها سيادة الحق مع مزجها بضرورات القوة بشتي أنواعها، وذلك من خلال وضع منظومة لتحديد الإستراتيجية الفاعلة والقادرة علي المواجهة ومن ثم التغيير والإنتقال، وتلك هي المعادلة الدقيقة وقد تكون الأصعب في مواجهة المخاطر الخارجية وفشل الأنظمة المحلية في معظمها. 


لقد أصبحت سياسة الأمن المتوسطي تُمارس من خلال تجاذبات دولية بأيدٍ محلية بين مد وجزر، وتعرقلها منهجيات الأهداف، وتشظي التكتلات، وضعف المنظمات، وهشاشة البني التحتية، وسيولة الدولة الوطنية، واخفاقات التنمية، وكلها دوافع وفواعل لتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل شمولي،،، ليصبح الإنخراط الراديكالي  منقذاً وملجأً، وليصبح الغرق في البحر شفاءً، ولتصبح الهجرة للمجهول طوق النجاة والأمل، ولتصبح الهوية والوطنية مجرد شعارات مٌفرغة.  


كما لم يقدم الغرب (إن ثم ما يستطيع تقديمه) المعالجات والبرامج العلمية والعملية، بل علي العكس، فقد جلب بعد الإستعمار لدول الجنوب مشاكل كبري بيئية، واقتصادية، وسياسية، وإجتماعية، وترك لنا بصمات دامية علي كل بقعة مرت بها جيوشهم والياتهم، فأصبحنا كلما ننظر للماضي نتوقع نتائج المستقبل والذي لم تغيره المبادرات والمعاهدات و الخطابات الإنسانية رغم تنوعها وتكرارها. 


المراوحة والجمود 


في كل المراحل البشرية هناك العديد من التحديات التي قد تٌحدث قفزات للأمام أو الخلف، وهناك دائماً الأمل الذي يوظفه البشر لتطلعات متنوعة في كافة مناحي الحياة، ويبقي الصراع المصلحي هو قائد المسير، ويبقى تحديد التداعيات الحقيقية بين ضفتي المتوسط رهينة النوايا الجادة لشراكة قِــوامها التعاون ومساعدة الدول المتضررة. 


عراقيل الإقليمية بين الضفتين


بدا لبعض الوقت أن ثمة فضاء فسيحا يتسم بالسيولة ويمتد في العالم العربي، متاخما للعمق الإفريقي، ومؤثرا ومتأثرا بالجار الأوروبي، ليثير تساؤلات حول مستقبل التوازنات الإقليمية في منطقة المتوسط، والتفاعلات الدولية بشأنها.
 
يضم مفهوم الإقليمية Regionalism كافة أنواع المضامين المرتبطة بالإقليم، إندماجاً وتحالفاً وتعاوناً وتنافساً، كما تأتي أولوياته للحصول علي الموارد الطبيعية وتحقيق المصالح الأمنية والإستراتيجية.


ورغم الأهمية الجيواستراتيجية، يواجه الإقليم المتوسطي صعوبة في كونه إقليما واحدا، بل يصنف إلي أقاليم رئيسية وفرعية، وبالإمكان علي عجالة أن نحدد الأطر التي تعيق التكامل الإقليمي، باشكال ثلاث؛ (سياسية)، من خلال استمرار الصراع العربي – الإسرائيلي، وتباين طبيعة أنظمة الحكم، وتراجع الأولويات بدخول دول "شرق اوروبا" ضمن أطر التكامل الإقليمي. (إقتصادية) متمثلة بالتفاضل الاقتصادي، والدين العام لصالح شمال المتوسط، وموانع تقنية وفنية في انتقال السلع والبضائع والبشر. (إجتماعية) تأتي وفق موروث استعماري خلف الريبة بين كل من أوروبا والعالم العربي والأفريقي، كما عمق النظرة السلبية تجاه المتوسطية والشرق الأوسطية بحسبانهما تذويبا للهوية العربية، ويشكل التفاوت الاجتماعي والقيمي الهوة والفجوة بين ضفاف المتوسط. 


التحديات المعاصرة الإقليمية والمستويات الخمس لمفهوم الأمن المتوسطي


بالإضافة الي ما سبق من تحديات تتسم بطابعها العسكري إبان الحرب العالمية الثانية وما قبلها، فإننا ندور اليوم -بعد إنتهاء الحرب الباردة ودخولنا الي سلسلة من حروب الجيل الرابع وما بعده-،  فقد برزت تحديات إقليمية جديدة ومنها الإرهاب، والجريمة المنظمة (خاصة الإتجار بالمخدرات والسلاح والبشر)، والهجرة (المشروعة)غير القانونية، وقضايا اللجوء، والبطالة، والطفرة العمرية، والتدهور البيئي، والصراع الإثني، والبحث عن الهوية، والتحول الديمقراطي، والنزاعات علي الموارد الطبيعية وبالأخص الطاقة والمياه، وكلها تأتي في غياب الرؤية المحلية والإقليمية والدولية، وكلها ستؤدي بلا ريبة الي تغيرات جذرية وازدياد غير مسبوق لإزدياد أشكال وأنماط الفوضى الإقليمية وانعكاساتها السلبية علي العالم بأسره. 


لن نكون بقدر المسؤولية وتحديات التغيير ان لم نتعايش فى سلم داخلي ونوجه الإرادة العامة لصالح المجتمع ونتعرف على اخطائنا وإخفاقاتنا لنصلحها بدلا من انتقاد من قام بها، ولذا 

يجدر بدول جنوب المتوسط استباق المبادرة وعدم تحميل الإخفاقات علي الغير في شماله أو بشكل دولي، هروباً من المسؤولية وتعليق الفشل علي البرامج المتعثرة للمنظمات الدولية والتدخلات الأجنبية، فتحقيق المصالح إستراتيجياً وسياسياً وإقتصادياً لا يخضع الي موازين إنسانية وعاطفية، وإنما يستوجب  إرادة برجماتية كلية وشاملة علي الصعيد الوطني والإقليمي، وذلك  للإرتقاء لمستويات التحديات الراهنة في منع الصراعات؛ من خلال إدارة وإزالة العراقيل الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية، وإدارة الصراعات؛ من خلال إيجاد آليات لتعامل الجماعة الإقليمية بشكل متوازنٍ يقوم علي المصالح المشتركة بين ضفتي المتوسط لبناء إقليم متماسك.


يعد الأمن الإقليمي أهم مضامين مفهوم الإقليمية ووفقاً لما يراه الباحثين، فقد تم توسيع وتعميق مفهوم الأمن الإقليمي ليضم القطاعات الخمسة للأمن التي أشار إليها بوزان عام 1991، وهي الأمن العسكري، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والبيئي، فضلا عن ذلك، فقد برز مفهوم الأمن الإنساني في تقرير التنمية البشرية لعام 1994، والصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP، ليؤكد الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، وسائر العوامل البيئية والفردية التي تؤثر في سلامة الأفراد، ومن ثم في أمن الدولة. وقد تمخض توسيع وتعميق مفهوم الأمنSecuritizationعن تصنيفه إلي أربعة مستويات، هي الأمن الإنساني، والوطني، والإقليمي، والدولي.


السيولة الإقليمية ...تربصات الإعتدال والممانعة


 
نصف الحالة الراهنة بأنها حالة من التربص وعدم تحديد معايير الاستقطاب الجديدة-بالرغم من تشكل بعض تحالفات مؤقتة ومرنة-، فهل سيكون المعيار اليوم؛ هو طبيعة النظم الحاكمة، أم الهوية، أم الخلفية الاقتصادية، أم ستستمر القضية الأم (الصراع العربي – الإسرائيلي) محدداً لنمط العلاقات القادمة؟. 


في الوقت ذاته، هل سنعتبر مشروع الشرق الأوسط الكبير أو مكملاته تحت مسميات "صفقة القرن وفرصة القرن" هو مشروع متميز لغلبة القطبية الأحادية وانتصار الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ سياستها وتغييب النفوذ الأوربي في مناطق عديدة ومنها دول شمال أفريقيا وجنوب المتوسط؟ 


عموما، فحالة السيولة تتسم بطبيعتها بعدم التعيين Uncertainty، ومن ثم انفتاحها لمختلف السيناريوهات، وقد اثبتت العقود السابقة إخفاقات الكثير من القضايا حيث لم يتحقق تقدم جوهري وفعلي علي المحاور الثلاثة لعملية برشلونة، ولم يستطع الاتحاد الأوروبي لعب دور فاعل في تفعيل البرامج الاقتصادية، بلحاظ  بعض اتفاقيات الشراكة الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وبعض دول جنوب المتوسط وشرقه، كما لم تستطع  دول شمال المتوسط  أن تكون طرفاً قوياً ومحايداً في عملية السلام بالشرق الأوسط، لا سيما في ظل عدم قبول إسرائيل لهذا الدور الأوربي وتغليب مصالحها واقرانها بمصالح كبري وتوجهات أمريكية. 


من هذا المبدأ، برزت الحاجة إلي مراجعة إطار السياسات المعقدة، الناجم عن الشراكة الأورو-متوسطية، وسياسة الجوار الأوروبي، والاتحاد من أجل المتوسط، كما يحفزنا الواقع العربي الأفريقي لتقديم المعالجات واستعادة تفعيل منظومته الإقليمية كتلك المتعلقة بـ "الإتحاد الأفريقي" أو "جامعة الدول العربية"، أو "الإتحاد المغاربي" بشكل "كتلة" يتوافق مع التغيرات المحلية والدولية. 


محاور وسيناريوهات مستقبل علاقات البحر الأبيض المتوسط


أري بأن هناك ثلاث محاور رئيسية وجب دراستها وإضافتها في الوقت الراهن عندما نأتي لدراسة مستقبل ضفاف المتوسط، بالإضافة الي محاور عديدة أخري تطرق اليها الباحثين والكتاب والمؤرخين: وتكمن المحاور الجديدة بعد ظاهرة الثورات في الجنوب المتوسطي وتحديدا في دول عربية والتغيرات اللآحقة في كل من "السودان والجزائر"، الا أن هناك تحديات أخري ستظهر إما عند إستقرار دول الربيع العربي كسبباً من أسبابه او كنتيجة له، وأهم تلك المحاور القادمة هي:-


  • التقسيم الجديد لدول عربية، وفق نموذج عرقي، أو ديني، أو بإنشاء منطقة توتر دائم. فقد بدأ التقسيم في اليمن، ثم السودان، وسنشهد العديد من الإنقسامات القادمة " إذا لم تتفطن الدول العربية وتغلب مصالحها المحلية والقومية". 
  • إستمرار الحركات الإنفصالية في عديد من الدول الغربية وتحديداً الأوربية، ومن هنا ستسير الدول الأوربية في سياساتها القادمة بتبعية وسلوكية للولايات المتحدة الأمريكية في ظل حركات الإنفصال وأهمها في الوقت الراهن "البريكست"، والحراك الأسباني الإنفصالي في "كاتالونيا" وغيره.  
  • الضغوط الأمريكية المستمرة في فرض النفوذ والإستحواذ علي الطاقة، وبالأخص بعد الإكتشافات النفطية والغازية الجديدة عام 2010 في كل من حوض النيل والمناطق حول سوريا ولبنان، وهو سبب قوي لما نشهده اليوم من أحداث رهيبة. 


باحث  و أكاديمي ليبي 

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة